هى لحظة تاريخية تلك التى تشابكت فيها أيدى الرئيس السيسى مع أيدى عدد من الأولاد والبنات ومسئولين عسكريين كبار للضغط على زر التفجير إيذانًا ببدء تنفيذ مشروع تنمية محور قناة السويس، مفتتحًا بذلك سلسلة من المشروعات القومية الكبرى التى تستهدف تغيير وجه الحياة فى بر مصر المحروسة. واللقطة نفسها لا تخلو من دلالة مهمة ذات طابع تاريخى، فالأيدى لرجال كبار وأخرى تمثل المستقبل بكل براءته وتطلعه وطموحه، فى رسالة بسيطة وذات مغزى، فلن يبنى مصر إلا كل أبنائها كبارًا وصغارًا، شبابًا وشيوخًا. فالكبار يقدمون القدوة والخبرة والإرادة والمسئولية، والصغار يقدمون الجهد والعرق والطموح. والكاسب هو مصر بكل من فيها. واللقطة نفسها تذكرنا بما هو معروف من بديهيات ولكن البعض منا وربما الغالبية تنساه أو تتجاهله، فما من قائد فى أى موقع كان، لا يطلب منه سوى أن يكون نموذجًا للإرادة والإنجاز والعطاء والإخلاص من أجل بلده وشعبه. ولنا فى عبد الناصر مثل حى فى ذاكرة الأمة رغم أخطائه الكبرى، فهو القائد الذى عمل من أجل رفعة الفقراء وكرامتهم، وجاهد من أجل بلده وريادتها حرة مستقلة، فلم ينسه المصريون رغم كل حملات التشويه والجحود. ونحن المصريين لدينا خبرة ما زالت طازجة ولم تُنس بعد، فمن لا ينجز ويخلص لأبناء الشعب دون تمييز بين فئات الشعب، فلا مكان له، لا فى سدة القيادة ولا فى غيرها، والشعب أول من سيثور عليه ويسقطه ويضعه فى مزبلة التاريخ. *** وبالنسبة للرئيس السيسى فإن مشروع تنمية محور قناة السويس يعنى انتقالًا سلسًا بين تفويضين: الأول كان تفويضا شعبيا من أجل دحر الإرهاب وأعداء الوطن فى الداخل والخارج، ومن أجل حماية الوطن وأمنه من عبث العابثين. أما التفويض الثانى فهو تفويض الإنجاز والعطاء، تفويض العمل والجهد والإخلاص والبناء. والواقع يشهد أن التفويضين متكاملين، وأنه كلما زاد الإنجاز ونما، كلما تقلص الإرهاب وخبا. فما من مجتمع يستطيع الانطلاق نحو المستقبل وهو مشدود بأحبال الغلو والتطرف والعنف وانغلاق العقل، وما من بلد يحقق أمنه وأمانه بدون إنجاز على الأرض يتحقق بأيدى أبنائه المخلصين. وتبرز هنا دلالة القرار بأن لا يحفر قناة السويس الجديدة فى القرن الواحد والعشرين إلا الأيدى المصرية والأموال الوطنية الخالصة. فكما حفرها الأجداد قبل 145 عاما ومات الآلاف فى سبيلها، فلن يحفرها فى طبعتها الجديدة إلا مصريون لتظل قناة السويس ملحمة مصرية خالصة لا تشوبها شائبة. *** لقد أفاض الرئيس السيسى فى التأكيد على الدور الذى يجب أن يقوم به كل المصريين لبناء البلد ومواجهة المشكلات المتراكمة، وعلى أهمية العطاء وضرورة التماسك المجتمعى، وأفاض أيضا بالدور الذى تقوم به القوات المسلحة فى حماية الأمن القومى وفى بناء مصر. ولا يمكن لمصرى منصف أن يجادل فى حب المصريين لجيشهم، أو يشكك فى عقيدة الجيش الوطنية المخلصة، ولا فى الخطوات الحاسمة التى يقدم عليها فى اللحظات الحرجة من عمر الوطن من أجل حمايته وحماية الشعب ولمنع حرب أهلية ومواجهات دامية خطط لها المرجفون بليل للنيل من الجيش والشعب ومصر كلها. هذه حقائق ناصعة عشناها فى السابق كما نعيشها فى المرحلة الراهنة. ولا أتصور أن هذه الحقائق تمنع إطلاقًا مناقشة حدود الدور الذى تقوم به القوات المسلحة الآن فى التنمية والبناء جنبا إلى جنب دورها الرئيسى فى حماية الأمن القومى فى لحظة مليئة بكم هائل من التهديدات من كل الاتجاهات تقريبا. وفى فترة سابقة ليست بعيدة، وحين كان صغار القامة قصار النظر يطلقون الشعارات الحادة والجارحة ضد الجيش وقياداته ويثيرون الشكوك فى الدور الاقتصادى والتنموى للأنشطة الاقتصادية التابعة للقوات المسلحة، كنت أحد المدافعين بشراسة عن الجيش باعتباره ملكًا للشعب، وكنت وما زلت أحد المناصرين للأنشطة الاقتصادية للجيش المصرية لما لها من آثار إيجابية على الاقتصاد القومى ككل، وكذلك لأن الغالبية الساحقة من البلدان المعاصرة تسمح لجيوشها بأداء اقتصادى وتنموى وبدور قاطرة للنمو فى مجالات عدة، علمية وتطبيقية واقتصادية وتصنيعية وغيرها. ومن يتابع التقدم العلمى المُبهر فى الولاياتالمتحدة بتداعياته الرائعة فى الحياة المدنية يدرك على الفور أن الأنشطة العسكرية كانت وراء العديد من الاختراعات والإنجازات العلمية الرائعة التى استفادت منها الحياة المدنية فى أمريكا وفى ربوع العالم بأسره. ولا يساورنى شك فى أن ما تتميز به القوات المسلحة من انضباط وتفانٍ فى العمل والإنجاز، ومن وضوح المسئوليات لكل المستويات، هو أحد الأسباب القوية وراء تحقيق معدلات إنجاز عالية وفقا للجدول الزمنى المحدد، وبدون أن يُخل ذلك بالمعايير والمقاييس المطلوب تنفيذها. وهى سمة لا تتوافر فى كثير من المؤسسات المدنية التى أصابها التراخى والترهل وتراجع الأداء. وبالتالى يصبح منطقيًا أن ترتفع معدلات الاعتماد على القوات المسلحة من أجل إنجاز المشروعات القومية الكبرى، أو على الأقل الإشراف على عملية تنفيذها ضمانا للدقة والالتزام بالمعايير. بل إن بعض المشروعات الكبرى والتى تتداخل تفاصيلها مع محددات الأمن القومى وقدرات الدفاع عن الوطن ضد تهديدات محتملة ولا يجوز تجاهلها، يصبح أمرا طبيعيا أن يؤول الإشراف عليها وتنفيذها للقوات المسلحة. ومشروع تنمية محور قناة السويس بالصورة التى بدأ تنفيذها هو نموذج بارز لهذه المشروعات. غير أن الإفراط فى تحميل القوات المسلحة وهيئتها الهندسية مسئولية الإشراف على مشروعات أخرى بطول البلاد وعرضها دون أن تتداخل تفاصيلها مع اعتبارات الأمن القومى يتطلب منا وقفة مراجعة وإعادة الحسابات. فمشروع مثل إنشاء شبكة طرق تصل أطوالها إلى 3200 كم، وتمتد فى كل المحافظات لا يتطلب تدخلًا من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وإنما يتطلب مشاركة ومسئولية مباشرة من الشركات المدنية ذات الخبرة فى بناء ورصف الطرق، وفى مصر العديد والعديد من نوعية هذه الشركات، والتى تحتاج أن تدخل مضمار إعادة بناء مصر وفقا لمقاييس عالمية بدون قيود، اللهم إلا قيود الالتزام بالمعايير المعلنة والجدول الزمنى المحدد، والتعرض للمساءلة حسب القوانين حال حدوث تراخٍ أو فساد. فالفرص التنموية فى مصر عديدة ومتشعبة، ولا تستطيع جهة بعينها مهما عُرف عنها من انضباط وتفانٍ أن تحل محل باقى الجهات. وينطبق الأمر على العديد من المشروعات القومية الكبرى، فلتتركوا الفرص تنساب للجميع، وليكن النشاط التنموى للقوات المسلحة وأفرعها الهندسة مقصورًا على ما يرتبط مباشرة باعتبارات الأمن القومى. ولنضع فى اعتبارنا أن هناك كثيرين من أعداء الوطن يتحدثون بمناسبة وبدون مناسبة عن عسكرة السياسة وعسكرة المجتمع وعسكرة الاقتصاد، فلا تعطوهم قبلة الحياة ولا تمنحوهم ما يهز ثقة البعض منا فى مستقبل بلده. *** واذا كان البعض منا قد تذكر ما قرأه عن مراسم الافتتاح الأول لقناة السويس عهد الخديو عباس وبحضور ملوك أجانب فى نوفمبر 1869، وما ساده من فخامة وإبهار تتحدث بها كتب التاريخ، وقارنه بما حدث يوم 5 أغسطس بالإسماعيلية لتدشين حفر القناة الجديدة بطول 72 كيلو مترًا، فبالرغم من السمة المصرية الغالبة والتنظيم المُحكم إجمالا، إلا أن بعض الفقرات لم تكن على مستوى الحدث، وأشير هنا تحديدا إلى كلمة الفريق مُهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس، والتى شرح فيها المشروع وتفاصيله وأهدافه وعوائده، وهو الشرح الذى اتسم بالملل وضعف الحيوية وضياع اللغة العربية. وأكثر ما أزعجنى أن الرجل كان يقرأ الفقرة ثم يُعيد شرحها بنفس كلماتها وبدون إضافة وبلغة عامية ركيكة، والأسوأ أنه لم يكن يرى فى الحضور سوى رئيس الدولة، ولم يأخذ فى اعتباره أن هناك ملايين من المصريين وفى العالم أيضا من كانوا يتابعون كلمته التى أصابت الجميع بالملل الشديد، حتى أن بعض الحضور انتابته نوبة نوم عميق، وراجعوا فى ذلك فيديو كلمة رئيس الهيئة. أما الأكثر سوءا فهو تركيزه على كفاءات الهيئة التى يشرف برئاستها وقدرتها على تحقيق أعلى معدلات الانجاز للمهام التى تطلب منها، ولكنه لم يترجم ذلك فى عرضه الذى اتسم بألوان باهتة وكلمات غير واضحة واستاتيكية لا تتناسب مع الإمكانات الكبيرة التى تتيجها برامج العروض والتقديم الاليكترونية والمتاحة للجميع بلا مقابل. وما يزعجنى هنا هو أن مثل هذه الأخطاء تعبر عن مستوى أداء لم نكن نحب أن نراه لا نحن ولا العالم، خاصة فى مناسبة كهذه مطلوب منها أن تقدم للعالم بأسره فكرا متطورا وتنظيما مبهرا. *** ان مساحة الفرحة والفخر التى انتابت المصريين بعد انطلاق هذا المشروع العملاق، يجب ألا تنسينا أمرين مهمين أتوجه بهما إلى أعلى المراجع فى الدولة: أولهما أن هيئة قناة السويس ورغم وقوعها فى أقليم القناة، ويفترض نظريا أن تفتح أبوابها لأبناء هذه المحافظات للعمل والترقى، إلا أنها ليست كذلك، واسألوا أبناء محافظتى الاسماعيلية وبورسعيد مثلا، كم من أبنائهما يعملون فى المقر الرئيسى مثلا بالاسماعيلية، أو فى الشركات التابعة لهيئة القناة ومقرها بورسعيد، وكم هم عدد أبناء محافظات أخرى يعملون بها فقط لأن مديرا كبيرا جاء من هذه المحافظة أو تلك، وكان همه الأكبر أن يجلب أبناء محافظته للعمل بالهيئة والاستفادة مما توفره من ميزات كبيرة للعاملين بها. ولا ينكر أحد أن مشاعر الغضب والاستياء بين أبناء الاسماعيلية وبورسعيد كبيرة للغاية من تصرف ممتد لسنوات طويلة مضت، وإذا استمر مثل هذا الأمر بالنسبة للمشروعات التى ستشرف عليها هيئة قناة السويس، فسيعد ظلمًا بينًا لأبناء هاتين المحافظتين الباسلتين. وهنا فإننى أرجو من الرئيس عبد الفتاح السيسى أن يطلب بيانًا إحصائيًا من هيئة قناة السويس بأعداد العاملين فيها والمحافظات التى جاءوا منها والسنوات التى عينوا فيها ويربط ذلك بمحافظات المديرين الكبار، ليعرف حجم المشكلة، ثم بعد ذلك له أن يصدر أوامره وقراراته المناسبة لرفع الظلم عن أبناء محافظات القناة. الأمر الثانى، وهو من وحى مقولات الرئيس ذاته وقراراته التى قَصر فيها الاكتتاب فى مشروع حفر القناة على المصريين، إذ أدعو إلى أن تكون هناك نسبة محددة من هذه الأسهم لأبناء محافظات القناة، فمن غير المعقول أن يكون هذا المشروع العظيم فى محافظات القناة وأهلها مبعدون من وظائف الهيئة ومبعدون أيضا من تملك أسهم فى أهم مشروع قومى يحدث على بعد نظرة منهم. ويا سيادة الرئيس، إن مصر الجديدة وإن كانت تحيا بالعمل وبالتضحيات، فسوف تحيا وتنتصر وتسود بالعدل والإنصاف أيضًا. وإنصاف أبناء القناة سيكون قدوة مطلوبًا تحقيقها بلا تردد أو تأخر، خاصة أن سيادتكم تعلم جيدا حجم التضحيات التى بذلها أبناء محافظات القناة بعد نكسة 76، فهل من مجيب لدعوة العدل والإنصاف؟