من يقرأ تفاصيل الموازنة العامة وخاصة البيان المالى، سوف يتأكد أنه لم يكن هناك مفر من القرارات الاقتصادية الأخيرة التى تستهدف ترشيد الدعم وتخفيض العجز، وحتى مع كل الإجراءات التى اتخذت لتحريك أسعار المواد البترولية والكهرباء إلا أنه مازال العجز النقدى 240 مليار جنيه وهو ما يمثل نسبة 10% من الناتج المحلى الإجمالى. هذا فضلا عن إعداد مشروع الموازنة بناء على فرضيات بتطورات إيجابية فى الاقتصادى العالمى.. منها استقرار مستوى أسعار السلع الرئيسية فى الأسواق الدولية ومناخ دولى إيجابى داعم لزيادة النمو الاقتصاد فى مصر، إذا أحسنا الاستفادة من تلك التطورات فى جذب استثمارات خارجية، وزيادة حجم الصادرات المصرية، وعودة النشاط السياحى إلى معدلاته السابقة. والقراءة الأولية لملخص الموازنة تكشف أن إجمالى الايرادات المتوقعة لا يتجاوز 548 مليارا و600 مليون جنيه، منها 364.5 مليار من الضرائب بكافة أنواعها، و23.5 مليار منح ومساعدات و161 مليارًا من الرسوم المختلفة، فى حين يبلغ إجمالى المصروفات حوالى 789.4 مليار جنيه موزعة كالآتى: 207 مليارات أجور وتعويضات للعاملين بالدولة، و23 مليار لشراء السلع والخدمات، و199 مليارًا فوائد للدين العام و234 مليارًا للدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، و49 مليارًا مصروفات أخرى، 76 مليارًا استثمارات عامة، ومن ثم يبلغ إجمالى العجز النقدى حوالى 240.8 مليار وبعد خصم ما قيمته 800 مليون جنيه هى صافى حيازة الأصول المالية للدولة، يكون العجز الكلى فى مشروع الموازنة 240 مليار جنيه وبما يمثل نسبة 10% من الناتج المحلى الإجمالى البالغ تريليون وحوالى 400 مليار جنيه. هذا مع ملاحظة أن إيرادات الجهات السيادية (البترول- قناة السويس- البنك المركزى والضرائب على عوائد الأذون والسندات تستحوذ على نحو 38% من إجمالى الإيرادات الضريبية وغير الضريبية. كما يلاحظ أيضًا أن الإنفاق على الأجور وفوائد الدين العام والدعم والمنح والمزايا يمثل 81% من الانفاق العام، كما أن تكلفة الالتزام بالاستحقاقات الدستورية فى الإنفاق على الصحة والتعليم وتطبيق الحد الأدنى للأجور وتحسين دخول الأطباء والمعلمين، وزيادة معاش الضمان الاجتماعى تبلغ حوالى 57 مليار جنيه. ويلاحظ أيضا أن الأجور تضاعفت بالنسبة للعاملين فى الحكومة خلال الثلاث سنوات الماضية، وهو ما يصفه مشروع الموازنة بالمؤشر بالغ الخطورة الذى يستوجب التعامل معه دون إبطاء، وقد اتخذت الحكومة بعض الإجراءات الإصلاحية فى هذا المجال منها إلغاء الإعفاء الضريبى على العلاوات الخاصة ووقفها وضمها للراتب الأساسى بعد مرور خمس سنوات، ووقف التعيينات بالحكومة من الأبواب الخلفية، وربط التعيينات الجديدة بنسبة لمن يتم خروجهم من الخدمة. ولكن ماذا عن الإنفاق الاجتماعى فى مشروع الموازنة؟.. لقد سعت الحكومة إلى تطبيق مجموعة من السياسات لتمكين المواطن المصرى من خلال تحسين وتوفير الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، والإسكان، ومياه الشرب، والصرف الصحى، والمواصلات العامة، كما ثبتت عدد من المبادرات لتطبيق ما يسمى بالحماية الاجتماعية التى تحقق استهداف أفضل للأسر الفقيرة بدلا من الأساليب التقليدية لدعم السلع التى اتسمت بعدم الكفاءة والإهدار والتسرب وعدم وصول الدعم إلى الفئات المستحقة. وتشمل أيضا المبادرات الجديدة توسيع قاعدة المستفيدين من معاش الضمان الاجتماعى الذى يعتبر إحدى الوسائل الفعالة للدعم النقدى المباشر للأسر الفقيرة، بالإضافة إلى استمرار برامج الدعم والحماية الاجتماعية الأخرى مثل دعم الغذاء ودعم المزارعين وغيرها. وتبلغ جملة الإنقاذ الاجتماعى المباشر فى الموازنة حوالى 431 مليار جنيه، أى ما يقرب من 55% من إجمالى الإنفاق العام. ثلاثة أسباب ما تقدم يكشف أنه لم يكن هناك بديل عن ضرورة إجراء الإصلاحات المالية فى الموازنة العامة، ويمكن تلخيص الأسباب الدافعة لذلك فى ثلاثة أسباب رئيسية: أولها توفير موارد إضافية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وثانيها: زيادة معدلات النمو الاقتصادى والتشغيل، وثالثها: تحقيق العدالة بين الأجيال، بمعنى عدم تحميل الأجيال المقبلة أعباء خدمة الدين العام الذى يتزايد عامًا بعد آخر. فخفض عجز الموازنة سوف يسمح بعدم مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص فى الحصول على التمويل المطلوب من الجهاز المصرفى ليتوسع فى استثماراته أو إقامة مشروعات جديدة، كما أن هذه الإصلاحات المالية سوف تسمح بزيادة موارد الدولة، ومن ثم زيادة القدرة على تمويل الاستثمارات العامة.. وهو ما يؤدى إلى زيادة معدلات النمو وفرص العمل بشكل مباشر، بالإضافة إلى تحديث البنية الأساسية والتى لها تأثير إيجابى محفز لتشجيع الاستثمارات الخاصة. الدعم والمزايا الاجتماعية وسوف نتوقف هنا عند ما ورد فى مشروع الموازنة حول الدعم والمزايا الاجتماعية والذى قرر له 233 مليارًا و853 مليون جنيه، منها دعم سلعى بحوالى 163.5 مليار، خصص منها لدعم السلع التموينية حوالى 31.5 مليار جنيه، بواقع 18.5 مليار لدعم رغيف الخبز (حوالى 77 مليار رغيف سنويا) 13.5 مليار لدعم سلع البطاقة التموينية (السكر والزيت والأرز) والتى يستفيد منها نحو 19 مليون أسرة بعد 66.7 مليون فرد ويتم توزيع تلك السلع من خلال 25 ألف بقال تموينى. ثم هناك دعم المزارعين بحوالى 3 مليارات و353 مليون جنيه، لدعم مستلزمات الإنتاج الزراعى من أسمدة وبذور ومبيدات، بالإضافة إلى تقديم القروض الميسرة لبعض الأغراض الزراعية، و2.6 مليار جنيه لشراء القمح من المزارعين بأسعار تزيد على متوسط الأسعار العالمية، وأيضا دعم المواد البترولية بما يزيد على 100 مليار جنيه، ودعم الكهرباء بأكثر من 27.5 مليار جنيه، والأدوية وألبان الأطفال بحوالى 300 مليون وشركات المياه بحوالى 750 مليون جنيه. أما المزايا الاجتماعية فتتمثل فى دعم نقل الركاب بحوالى 1.5 مليار ودعم اشتراكات طلبة المدارس والجامعات والمعاهد الأزهرية على خطوط السكة الحديد بحوالى200 مليون يستفيد منها 100 ألف طالب سنويا، وهناك أيضا دعم التأمين الصحى على الطلاب والمرأة المعيلة والأطفال دون السن المدرسة، وكذلك معاشات الضمان الاجتماعى وصناديق المعاشات، وإسكان محدودى الدخل، وفوائد القروض الميسرة. هذا بالإضافة إلى دعم المناطق الصناعية والصادرات. *** ونظرا لأنه لابد أن تتوازن الموازنة العامة.. أى لابد أن تتساوى الموارد من المصروفات، فلابد من تغطية العجز المقدر بحوالى 240 مليار جنيه، وقد أوضح مشروع الموازنة أنه ستتم تغطية هذا المبلغ من خلال الاقتراض بحوالى 713 مليونًا وإصدار أذون وسندات بحوالى 240 مليارًا، بالإضافة إلى حصيلة الخصخصة والمقرر لهذا أن تحقق حوالى 250 مليون جنيه فقط. وأخيرا.. ورغم كل الظروف.. فمازال الاقتصاد المصرفى يتمتع بالتنوع فى أنشطته ومصادر نموه، وطاقات وأصول إنتاجية غير مستغلة بالشكل الكامل، وقطاع خاص ديناميكى، وموارد بشرية ضخمة.