جاءت الانتخابات الرئاسية المصرية هذا العام بنكهة ذات مذاق خاص... والحقيقة لم يدهشنى على الإطلاق أن تأتي النتائج النهائية المعلنة بالسيد عبد الفتاح السيسى رئيسا لمصر..بنسبة اكتساح تفوق 96% عن السيد حمدين صباحى... فنحن فى مصر كنا على علم بذلك.... ولكن الانتخابات هذه المرة كان لها معنى عميق كما أتت بمذاق ليس له مثيل فى تاريخنا ..وحتى أسوق حيثياتى.. أتناولها فى عدة مسارات رسمية وسياسية. أما المسار الرسمي... فكان جديدا أن تجتهد الحكومة..وقمة السلطة التنفيذية .. فى أن توفر مناخا مناسبا لإجراء الانتخابات.. فوفرت لها تنظيميا ولوجيستيا ما يلزمها بشكل مناسب إلى حد بعيد... كما اجتهدت الحكومة فى الوقوف على الحياد فى التعامل الرسمى مع المرشحين ... وأعتقد أنها نجحت لحد بعيد فى ذلك.. مع بعض الخروقات التى لا يلتفت لها لتفاهة أثرها على العملية إجمالا... كما أجدنى معجبا لحد الانبهار من كفاءة الأداء الأمنى الرائع وقدرة الشرطة على التواجد فى قلب الحدث وعلى ضبط سلوك الشارع المصرى بإحكام فى هذا الظرف العصيب...والقضاة.. كانوا أبطال المشهد المتوارين عن الأنظار.. أحكموا عملهم وأدوا واجبهم فى تجرد وتفان... ومعهم طاقم المعاونة من الموظفين وأمناء اللجان. وبشأن القوات المسلحة... أبرز فرسان الانتقال المجتمعى فى مصر..فلها أرفع القبعة ..وأعجز عن تقدير حجم العطاء الذى بذلته ..لكى تمر الانتخابات بهذا الهدوء الراقى... وقد أدركت أن هذا ما سيحدث مبكرا بيوم عن موعد الانتخابات..حيث كنت عائدا من طريق الإسماعيلية الصحراوى للقاهرة..فى الطريق شاهدت بانبهار..جيوش بلدى العظيمة مصر.. تمتد سياراتهم المصفحة وناقلات جنودهم..وعرباتهم المجنزرة ..ودباباتهم الثقيلة...وناقلات السيارات العملاقة ....وسيارات الانتشار السريع..تمتد لكيلومترات على الطريق لم أدرك أولها من آخرها.... فى مدد كان أوله بالقاهرة وآخره لم يخرج بعد من مقار الجيوش بالمعسكرات...فى استعراض حقيقى فى طريقهم من أماكن ثكنات الجند إلى مواقع التأمين..فى مظاهرة قوة ليس بعدها دليل على أن جيش مصر منتصب القامة..لن يسمح بانهيار البلاد ...وملئنى شعور بالفخر ..وأنا أرى تلك الجموع الهائلة والأعداد الحاشدة من الجند والعتاد .. فى كامل هندامها ...وهى تسير بفخر وانضباط وثقة إلى مقار الانتخابات ..لجيش مصر منا كل تحية وإجلال وتقدير.. هم سند المجتمع.. وهم عامود الخيمة.. جيش العرب وعلامة القوة فى الشمال الأفريقى .. وهم فخر مصر.. أدام الله قوتهم عونا لمصر وللعرب قاطبة.. وعصمة لنا من طمع الطامع وحقد الحاقد ونزق الأبله و المأفون... وحماه الله تعالى من دعاوى الجهال وأصوات المتربصين... ودهشت لغبائهم... إذ تصوروا يوما أن مصر العظيمة بكل زخمها الإنسانى والتاريخى والحضارى والإسلامى والمسيحى.. سوف تستدرج بسذاجة لفخ العبث بالجيش... شاهت وجوههم... والله بنصره لمصر الغالية عصمنا من ظلام قلوبهم وسواد نفوسهم.. كما عصمنا من سذاجة عوامهم وسطحيتهم.. التى نكلت تاريخيا بالعشرات من المجتمعات الإسلامية ... التى استسلمت لفكر التقوقع والتفسخ بين عقائد شتى فى الدين الواحد... وكأنهم لم يسمعوا فى حياتهم قول الحق: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” صدق الله العظيم..الأنفال 46... أو يعقلوا حديث المصطفى.. لا تجتمع أمتى على ضلالة.. ومع ذلك يستمرون فى التقوقع والبعد عن الخطوط العريضة لتدين مجتمعاتهم. أما على المسار السياسى ... فقد كان مشهد الانتخابات السياسى متسما بالسخونة النسبية فى فترة الحملات الانتخابية..إلا أنه واجب أن أشيد بالمرشحين ..وحملتيهما ..... فقد كانا فى أغلب الوقت ومعظم السلوك..منضبطين بانضباط المواطنة والصالح العام..فلم نشهد خروجا سافرًا على نواميس الحملات... ومن واقع تجاربى الدولية أشهد بأن الانتخابات من حيث الحملات الانتخابية كانت بسخونة الحدث... عاقلة وهادئة وعكست رقيا ومدنية جيدة من كلا المرشحين. وأهم ما لفت نظرى فعلا..وجعلنى أنظر بعين العجب والفرحة الممتزجين... إن الحملات جاءت خالية تماما من عنصر المتاجرة بالدين والعبث بعواطف البسطاء من أهل العقيدة من مصر... وهى ميزة إيجابية لا حدود لفضلها فى تقديم مسارات هادئة ورشيدة للتنافس العاقل..بعيدا عن غباء ممارسات تيارات السياسة الملوثة بالدين ، والذين احترفوا اللعب على عواطف البسطاء ... ودغدغة حماسة الشباب الأرعن.. الذى يرى فى حرق مقعده الذى يجلس عيه يتلقى العلم بالجامعة.... مرضاة لله ورسوله.. خبث ما ذهبوا إليه..ولا سامحهم الله على العبث بعقول شباب مصر والعرب ..وتغييب فكرهم وتلويث عقولهم... الحمد لله ... خلت الانتخابات من عنصر الإقحام الغبى التاريخى للدين فى السياسة.. فجاءت الممارسة السياسية هادئة وحتى عندما احتدمت.. احتدمت سياسيا ولم تشتعل دينيا.. لأن عناصر الإشعال المتعارف عليهم قد غابوا عن الصورة.. وغابت معهم جحافل الغباوة ومتاريس الجهل التى تقف حجر عثرة فى طريق النور والعقل. أما عن القوات المسلحة والشرطة والقضاء..فرسان الاستقرار والانتقال المؤسسى المنضبط.. فلهم كل التقدير من وطن ..يصمد بعزة وشموخ.. ولا يسقط... كما سقط ويسقط حولنا من أوطان العرب العزيزة على قلوبنا فى العراق وسوريا وليبيا واليمن .. ومازال الحبل على الجرار.. والدور قادم على غيرهم. ورسالتى للرئيس المنتخب.. الذى عَلِمْناهُ قبل أن تعلنه رسميا لجنة الانتخابات الرئاسية.... يا سيادة الرئيس.. وحملك ثقيل ..إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظن أن الليث يبتسم.... فالمصريون الذين وثقوا بك ومنحوك أصواتهم قد أسقمهم منح شيكات على بياض.. لأنهم خبروا دروس التاريخ القديم والحديث... ولأنهم اشتاقوا طويلا إلى رئيس إنسان.. ليس فقط يعرف الألم ويقدر المعاناة.... بل لديه قدرة على الخروج منهما بحلول واعية وآفاق واثقة... وعليك أن تشرع فى سياسة إصلاحية واعية... تعيد للمواطن المصرى كرامة يتوق إليها منذ سنوات وسنوات.. وتنهى التغريب للمصرى فى داخل وطنه... وتصلح من شأن مؤسسات الدولة.. التى يجب أن تشرع فورا فى إعادة رسمها ... وبنائها على قيم راسخة من احترام حق كل مصرى.. بلا تفرقة قائمة على دين أو لون أو طبقة اجتماعية....حتى تستجيب لمنطق المجتمع الذى قام بالثورة.. وليس المجتمع الذى خنع طويلا تحت ضربات الإقصاء والتهميش والتجويع والمرض.. وليلمس فى سلوكك كله طموح المواطن المصرى فى الغد وبعد الغد.. وفى مقدمتها مسئوليتك فى تقديم لمسات الإصلاح المؤسسى.. التى توازن بين توق المواطن للكرامة.. وبين حاجة تلك المؤسسات للتماسك والدعم... وليتك لا تنتقى معاونيك ممن تعرفهم... بل ممن تثق فى كفاءتهم.. وقوتهم فى الحق ... حتى لا توقع المجتمع والدولة فى فخاخ إصلاحات الشكل والفهلوة.. التى أدمنتها الحكومات فى مصر تاريخيا للالتفاف على حقوق المواطن البسيط.. ولتكريس مكاسب فئات بعينها.. أحكمت مخالبها فى عظام الدولة المصرية سنوات وسنوات .. وواجب الإصلاح المؤسسى... وإن كان معلوما بالضرورة احتياجه وقتا وحكمة بالغة.. حتى لا يتحول حلم الإصلاح إلى كابوس من الانهيارات الخدمية الرسمية ... أخذا بالاعتبار أن الإصلاح له مناوئيه.. من لن يطيب لهم على الإطلاق أن تسير عجلته فتأكل فى مسيرتها مكاسب اعتادوا عليها... وهى اعتبارات هامة وخطيرة.. على المواطن أن يتفهم أنها ليست هينة، وتحتاج إضافة إلى الوقت تخطيط منهجى دقيق.. ورؤية رسمية واضحة.. وتفهم مجتمعى لحتمياتها المتعددة. اللهم وفق ريس البلاد لما فيه خير المصريين.. جميعا.. بلا استثناء... فمصر المجتمع والبشر تحتاج فعلا إلى منهج إصلاح شامل.. يرضى طموح البسطاء والفقراء والمهمشين... ويعظم من قيمة عطاء وإسهام ذوى الثروة والمال.. لصالح مجتمعهم الذى يعيشون فيه.... نريد مصر موحدة وهادئة وواضحة الرؤية نحو البناء والمستقبل والعلم.. يا سيادة الرئيس.