أنا من الجيل الذى لم يكن أمامه سوى التليفزيون الحكومى ليشاهده بقناتيه الوحيدتين، وانتهاء إرساله منتصف الليل، ومن الجيل الذى كان ينتظر برامج السينما والحرب ونادى السينما واخترنا لك، وينتظر يوم الأحد ليشاهد اليوم المفتوح. ما علينا من هذه المقدمة التاريخية التى قد يشاركنى البعض معايشتها، لكننا جميعًا نتشارك الآن فى مشاهدة ومتابعة القنوات الفضائية التى لا نستطيع أن نحصيها، وآلاف من ساعات البث يوميًا تمثل مشكلة متعددة الجوانب لمعظم القنوات، كيف تملأ هذه الساعات الطويلة بما يجذب المشاهد والمعلن معًا؟ كان انتشار برامج «التوك شو» فى الفضائيات ظاهرة أشبه بانتشار المقاهى فى شوارع مصر، بلا ضابط أو رابط. واندفعت معظم القنوات تتسابق للانضمام تحت مظلة نظرية «القطيع» والتنافس فى تغطية أخبار النملة التى تعثرت!! فى المؤتمر الصحفى الذى عقده المنسحب خالد على كان عدد القنوات الفضائية والكاميرات التى جاءت تتابع الحدث أكثر من عدد ناخبى ومؤيدى المنسحب فى الانتخابات الماضية التى كان مرشحًا فيها!! كل القنوات تدور فى حلقة ضيقة من الموضوعات، وقائمة شبه متكررة من أسماء الضيوف والمعلقين، وتلك مصيبة، فقد أصبحت هناك قائمة من محترفى الظهور فى الفضائيات يوميًا بشكل فج بعيد كل البُعد عن العمل الإعلامى المتميز. ولكل ضيف تسعيرته حسب نظرية العرض والطلب، وأصبح عاديًا أن تشاهد نفس الضيف بنفس الملابس طبعًا فى ثلاثة أو أربعة برامج فى نفس اليوم..!! والحديث عن مقدمى البرامج مصيبة أكبر، فظاهرة الغزو الصحفى لشاشات الفضائيات تحولت لكارثة، فلا يعقل أن تكون الشخصية ثقيلة الظل وغير مقبولة على المستوى الإنسانى، ويتم توظيفها لتقديم برنامج جماهيرى، هل المطلوب تعذيب المشاهد وتطفيشه بعيدًا عن مشاهدة القناة؟ وهل الأهم هى «السبوبة» التى يحصل عليها الصحفى الذى هبطت عليه فجأة موهبة تقديم البرامج والظهور على الشاشة؟ وطبعًا كلنا نعرف لعبة الكراسى الموسيقية التى كنا نلعبها زمان، والآن تحولت إلى لعبة الكراسى الفضائية، وأصبح مقدمو البرامج يتبادلون القنوات ويتغير اسم البرنامج، وتضاف بعض اللمسات على الفكرة والمضمون، ولكن يبقى الوجه الممل الثقيل كما هو، وتظل الشخصية الغلسة كما هى، هناك الكثير من الجماهير اشتروا أنفسهم وقاطعوا هؤلاء مقاطعة تامة من حيث المبدأ، وآخرون كالذى يسير على حافة الهاوية متحفزًا وفى يده «الريموت» ينتقل بين القنوات، ويقفز مبتعدًا عندما يشاهد أحد هذه الوجوه المنفرة. يا أصحاب القنوات ويا أيها المعلنون ارحموا المشاهدين من هذا التعذيب الممنهج.. وخلِّصوا الناس من هذه الوجوه المستهلكة، والكاذبة، والمنفِّرة، وكفاية تعذيب!! ولا أستطيع أن أنهى الكلام دون ذكر حالة القناة «الدكان» التى يحتل صاحبها معظم ساعات البث وقاعد يحكى ويفتى ويطيل لسانه.. طبعًا هو حُر «بفلوسه» ومافيش معلن عبيط يعلن عنده.. وهذه حالة خاصة جدًا.. ومن يُرِدْ مشاهدة كائن فضائى فليشاهد هذه القناة!! والآن ونحن نبدأ مرحلة جديدة من حياتنا نتمنى أن تكون أفضل، وبعد أن أصبح لدينا دستور جديد ينظم الإعلام، فنحن فى انتظار الهيئة الوطنية للإعلام، وننتظر ميثاقًا فعالًا ينظم حالة الفوضى والتجاوز التى تسود الفضائيات، وننتظر أن يعى أصحاب الفضائيات أن الإعلام رسالة قبل أن يكون تجارة، ويا أصحاب الوجوه المستهلكة والمنفِّرة والشخصيات ثقيلة الظل، انظروا إلى أنفسكم فى مرآة الحقيقة ولو لمرة واحدة، واجهوا ضمائركم إن كانت على قيد الحياة. فيا جماعة الخير أوبرا وينفرى اعتزلت، يا من لا تعرفون حُمرة الخجل، ارحمونا يرحمكم الله..!!