منذ قرون طويلة يراود العقل البشرى أمل التخلص من الحياة البائسة التى لم تعرف إلا القتل منذ هابيل إلى عصرنا هذا مع زيادة وتيرة سفك دماء الملايين من الضحايا ولو لأتفه الأسباب مثل حرب داحس والغبراء.. فكان لجوء الفلاسفة والشعراء إلى البحث عن السعادة المطلقة، متنفسًا عن تشنجات المجتمع.. فشيدوا المدينة الفاضلة فى عالم الخيال كما تصورها سقراط وأفلاطون وأرسطو ومن بعدهم الفارابى، ثم جاء جان جاك روسو ووضع العقد الاجتماعى.. فكتب أفلاطون كتاب «الجمهورية» متأثرًا بأستاذه سقراط وشرح فيه كيفية إقامة مدينة تحكمها الفلاسفة.. ظنًا منه أنها ستكون مدينة مختلفة تحكمها الفضيلة فى كل شىء لينعم فيها المجتمع باستقرار دائم.. رغم نشأته فى بيئة ارستقراطية، حيث جعل الأخوة الرابطة بين الأفراد.. ومن أشهر مقولاته «أكبر شر عدا الظلم هو ألا يدفع الظالم ثمن ظلمه» وأشهر مقوله لسقراط «خلق الله لنا أذنين ولسانا واحدا.. لنسمع أكثر مما نقول». ثم خرج علينا الفارابى فى عهد الدولة الإسلامية ووضع أسس المدينة الفاضلة تختلف وتتفق أحيانًا مع مدينة أفلاطون فى كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» ويرى أن على الفرد أن يتنكر لمصلحته الذاتية ويتفق الاثنان فى العزلة والتأمل.. حتى جاء «روسو» وأسس العقد الاجتماعى لتنظيم العلاقات بين المجتمع وجعل الأخلاق أساس كل تقدم إنسانى. ومن الطريف قال أنيس منصور عن المدينة الفاضلة لأفلاطون: إنه منع دخولها الشعراء لأنهم يخلقون وهما كبيرا ويجملونه ليصدقه الناس.. ولذلك دعاة الوهم والخرافة هم أعداء المنطق والواقع وأطلقوا الجنون على الشعراء لعالمهم الوهمى الجميل الذين يزينونه بالصور البديعة، ولكن كلما زاد الظلم وانتشر الفساد وطغت المادة ارتفع مؤشر الشوق إلى حياة هانئة تتسم بالعدل والجمال والهدوء. ويرى علماء النفس والاجتماع فى معنى الإنسانية أن تكون إنسانا تحمل صفات الجمال والخير.. وتخلص نفسك من نوازع الشر وتتحرر من المادة. ولا بد أن نعترف بوجود الخير والشر فى الكون فبنى آدم والشيطان وأعوانه يعيشان على أرض واحدة.. والوجود لا يعرف فيه كل شىء إلا بنقيضه، بل يؤكده فيعرف الخير بالشر والجمال بالقبح والعدل بالظلم والمدينة الفاضلة تحمل كل مثاليات الحياة وتنسى الطبيعة البشرية وتناقضاتها. ويرى المفكرون أن المدينة الفاضلة تقيد الحرية بزعم أن كل فرد عليه أن يسعد الآخرين فقط.. فكان على هؤلاء الفلاسفة والشعراء النزول من أبراجهم العاجية والتعامل مع الآخرين وسماع آرائهم وأقوالهم المخالفة وتقبلها حتى نصل إلى الرأى الصحيح. والمدينة الفاضلة أصبحت حلما ورمزا لأعلام الفكر فليس هناك ما هو مطلق.. فكما قال معلم الأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ): (كل بنى آدم خطاء.. وخير الخطائين التوابون).. إذًا فنحن بحاجة إلى أمة راشدة وليست فاضلة خيالية.. ومن أجل ذلك كان الدين لإيقاظ الإنسانية.. والإسلام فيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومعايشة الواقع والدعوة إلى الإصلاح بالتى هى أحسن ورفض حب الذات والتكافل والتعامل مع من حوله من خلال الزكاة والعبادات الأخرى وسُنة النبى الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يروعه.. ولن تقبل صلاته إلا بالبعد عن فعل الفحشاء والمنكر.. وصيامه يسقط إذا سب أى شخص.. إذًا فالعقيدة أساس الأخلاق لأنها أكبر دافع وأقوى رادع للنهى عن إتباع الهوى والشهوات، فقد قال الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)).. فالإسلام دين وسط بين الروح والطبيعة والله أخبرنا بأننا خير أمة بتطبيق شروط الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. ويقول عز وجل:( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).. وأيضًا قوله: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).. فالإسلام وشريعته ينسجمان مع العقل والحكمة والمشاعر الإنسانية فلا يفرض شرائعه، بل يقول: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولا يجعلها مثلا عليا للاطلاع والتشدق بها فمن يعمل صالحا فجزاؤه الجنة ورضا المولى. ?? وفى النهاية ستكون حياتنا فاضلة فى ظل شريعة الرحمن والتخلص من التناحر والعنف بنهى النفس عن الغضب كما وصانا رسولنا الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) والوصول من خلال التمسك بمكارم الأخلاق فيقول الباحثون يجد الإنسان راحته فى طيب النفس فبطبيعته يرفض الأخلاق الذميمة ويمكنه اكتساب السلوك الطيب والنفس المطمئنة بالتدريج من خلال التربية ومجالس الصالحين.