بسبب الانقسامات بين العرب والفرس، أراد الخليفة المعتصم العباسى (218-227ه 837 - 843م) تكوين جيش محترف، لا هو من العرب ولا من الفرس، فأخذ فى جلب المماليك من أواسط آسيا، وجعل لهم معسكرًا فى «سامراء»، بالقرب من بغداد، على أمل أن يكونوا أداة طيعة ومخلصة للخلفاء فى بغداد، فلما تضخمت المؤسسة العسكرية المملوكية أصبحت هى المركز وغدا الخلفاء ألعوبة فى يد المماليك، بل أصبحت «سامراء» هى العاصمة التى تتبعها بغداد:- وبعسكرة الدولة بدأت عسكرة المجتمع، وأصبحت القيادة ل للعضلات لا للعقول، وكانت هذه التغيرات هى التى دخلت بالحضارة الإسلامية - وإن ببطء- إلى مرحلة التراجع فالانحطاط، خصوصا وأن العسكرة قد طال أمدها، بسبب الأخطار الخارجية - الصليبية.. والتترية - التى استمرت لعدة قرون. وفى نص عبقرى، يحتاج إلى الدراسة وتحليل المضمون، كتبه الإمام محمد عبده (1266 - 1323ه 1849 -1905م) عن هذه المتغيرات الكارثية، التى دفعت الحضارة الإسلامية إلى التراجع، قال الأستاذ الإمام: «.. كان الإسلام دينا عربيا، ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيًا، بعد أن كان يونانيا، حتى سيطر الترك والديلم وغيرهم من لم يكن لهم ذلك العقل الذى راضه الإسلام، والقلب الذى هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، فلبسوا ثوبه على أبدانهم، ولم ينفذ منه شىء إلى وجدانهم، فمالوا على العلم وصديقة الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيرا من أعوانهم على أن يندرجوا فى سلك العلماء، وأن يتسربلوا بسرابيلهم، ليعدوا من قبيلهم، ثم يضعوا للعامة فى الدين ما يبغض إليهم العلم، ويبعد بنفوسهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار، من باب التقوى وحماية الدين، وزعموا الدين ناقصا ليكملوه، فاستعاروا للإسلام ما هو منه براء، ونجحوا فى إقناع العامة بأن فى ذلك تعظيم شعائره وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وسنوا لنا عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم، مما فرق الجماعة، وأوقع الناس فى الضلالة، وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير مايقول المتقدم وجعلوا ذلك عقيدة، حتى توقف الفكر، وتجمدت العقول. ثم بثوا أعوانهم فى أطراف المماليك الإسلامية، ينشرون من القصص والأخبار والأراء ما يقنع العامة بأن لا نظر لهم فى الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، ومن دخل فى شىء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد فى الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة فى إصلاح حال ولا مال،وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا فى ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفى بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما شد أزرهم فى بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضللين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم فى جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم وغلا للأيدى عن العمل. والعامل الأقوى فى حمل النفوس على قبول الخرافات إنما هو السذاجة، وضعف البصيرة فى الدين، وموافقة الهوى - وهى أمور إذا اجمعت أهلكت - فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ فى نفوس الناس من العقائد مايتضارب وأصول دينهم وباينها على خط مستقيم. هذه السياسة، هى التى روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السموات، واخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات.. هناك استعجم الإسلام وانقلب عجميًا.. هكذا حلل الإمام محمد عبده - بعبقرية حضارية متألقة - دور عسكرة الدولة فى عسكرة المجتمع، وإحلال الخرافة محل العقل، واستبدال التدين الشكلى بحقيقة الإيمان.. وكيف أدخل هذا التغيير السلبى الأمة إلى نفق التراجع.. ثم الانحطاط. بقى أن نسأل: هل تكررت هذه الظاهرة بعد عسكرة المجتمعات العربية بعد قيام الخطر الصهيونى - فى قلب أمتنا - 1948م إن الوعى بالتاريخ سلاح فى معركة صناعة التاريخ.