كان القرن العشرون قرن التحولات الفكرية والسياسية بامتياز.. فيه صعدت الامبريالية حتى غطى استعمارها دول الجنوب.. وفيه تصاعدت حركات التحرر الوطنى حتى أزاحت جيوش الاحتلال، وتبنت الأممالمتحدة مبدأ تصفية الاستعمار.. ثم عادت الامبريالية من جديد عن طريق الديون ففرغت الاستقلال الوطنى من جوهر الاستقلال: ومع صعود الليبرالية فى مطلع القرن تلقت خلاله أوجع الضربات من الشمولية الماركسية.. ومن النازية «والفاشية» ومن انتشار الديكتاتورية وبعد سقوط الشيوعية، حسبت الرأسمالية أنها نهاية التاريخ.. وما هى إلا سنوات حتى دخلت هى الآخرى نفقا مظلما، يوحى بنهايتها هى وليس بنهاية التاريخ: ولقد شهد ذات القرن سقوط الخلافة العثمانية أو بالأحرى اسقاطها فانكسر الوعاء وسقط الرمز الجامع لوحدة الأمة الإسلامية لأول مرة فى تاريخ الإسلام.. ثم شهدت العقود الأخيرة من القرن صعود المد الإسلامى، وانحسار نماذج التحديث الغربية، وإفلاس الأيديولوجيات التى صدرها الشمال إلى الجنوب.. فعاد الغرب، الذى ظن فى عشرينيات القرن أنه قد استراح من منافسة الإسلام ومقاومته للهيمنة الغربية، ليتداعى ويستجمع قواه ومراكز نفوذ لمواجهة ماسماه «الأصولية الإسلامية» التى عرف الرئيس الأمريكى الأسبق «ريتشارد نيكسون» [1913-1994م] أصحابها بأنهم: «الذين يريدون بعث الحضارة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وجعل الإسلام دينا ودولة.. فهم ليسوا محافظين ولكنهم ثوار»!. وفى القرن الذى شهد هذه التحولات ولد وعاش المفكر والفيلسوف «روجية جارودى»[1913-2012م].. والذى عاش تسعة وتسعين عاما بالتقويم الشمسى ومائة وثلاثة أعوام بالتقويم القمرى .. والذى تحدث عن تحولاته الفكرية، ومعاناته الفلسفية، واجتهاداته الدينية،فقال: «لقد كنت لا أدريا كأبوى .ثم اتصلت بالفيلسوف الكاثوليكى «موريس بلمونديل» [18161949م].. وتحولت من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، وتحمست لها، ثم تركت الكاثوليكية إلى الماركسية وفىالماركسية أصبح جارودى زعيما سياسيا، وفيلسوفا عالميا.. لكنه تمرد على الجمود العقائدى وعلى شمولية الاستبداد، فأخذ يبحث عن شيوعية بوجه إنسانى.. وبعد أن تمرد جارودى على الرأسمالية فاعتنق الماركسية.. وتمرد على النازية، وقاومها عندما احتلت وطنه إبان الحرب العالمية الثانية.. وصل تمرده إلى الحد الذى شمل مجمل الحضارة الغربية، التى أفرزت الإمبرايالية والعنصرية والصهيونية والرأسمالية والفاشية والنازية والشمولية الماركسية، والتى رآها بفلسفتها الوضعية والمادية.. قد فرغت الإنسان من جوهر الإنسانية، وفرغت الحياة من معناها الإنسانى،فتحدث عنها فى كتاب جعل عنوانه:[ الحضارة التى تحفر للإنسانية قبرها].. عند ذلك، لم يكتف جارودى بالانتقال من أيديولوجية إلى أخرى، أو من دين إلى آخر، إنما رست سفينته على شاطئ الإسلام:الدين.. والعقيدة.. والشريعة.. ومنظومة القيم.. والحضارة، جميعا.. وذلك عندما رأى فيه الصيغة الجامعة لما تناثر فى النماذج الأخرى، ولما تآكل فى تلك النماذج أيضا.. وعن هذا التحول الذى استراح على شاطئ عقل جارودى وقلبه، قال هذا الفيلسوف الكبير: «..ثم تنبهت إلى النظرية الإسلامية، وتتبعت مصادر الإسلام إلى الأصول الإبراهيمية ، وهى الأصول الأكثر استيعابا لكل الأديان. والذى يريحنى فى الإسلام أنه ديانة لاتنفى غيرها من الديانات، ولاتنكر المسيحية، لأن الإسلام يبنى على ما سبقهالمسيحية واليهودية معا.. ولقد أذهلتنى صورة المسيح فى القرآن. والمسيح فى النظرية الإسلامية نبى من أنبياء الإسلام هو الدين، وماسواه ليس إلامللًا». إن هذا المعنى الذى تحدث عنه جارودى هو الذى سبق وعبر عنه الصحابى حاطب بن أبى بلتعة، عندما حمل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط سنة 7ه وقال له: «إننا ندعوك إلى الإسلام الكافى به الله فقد ماسواه»!.. رحم الله فيلسوف المعاناة والاجتهادات والتحولات رجاء جارودى.