طوت الفلسفة، أحد صفحاتها الرمادية الحافلة، التى امتدت على مدار ما يقرب من قرن كامل، بوفاة الفيلسوف الفرنسي، روجية جارودي، أو رجاء جارودي، كما أطلق على نفسه بعد إسلامه. حفلت حياة جارودي، الذى رحل الأربعاء الماضى فى صمت عن عمر ناهز 98 عاماً، بالتحولات الفكرية العنيفة التى ترواحت بين رؤية مادية للماركسية، إلى أخرى أكثر انفتاحاً على التيارات الفكرية الأخري، إلى مراوحة بين الكاثوليكية والبرتستانتية، إلى اكتشاف الإسلام. بيد أن جارودى الذى لم يكن مجرد منظرأو فيلسوف وحسب، ولكن ربما سياسياً أثار الزوابع حوله، أكثر من كونه فيلسوفاً، اعتنق جارودى إسلاماً بلا ضفاف، إسلاماً منفتحاً ومتسعاً، ويجعل من قراءته الآن درساً فى أن الخطر الفادح والقادم فى تلك اللحظة هو القراءة المغلقة للإسلام. كلفت آراء جارودى السياسية الكثير ومنها، تشكيكه بالمحرقة النازية لليهود، والتى حكم عليه بسببها بالسجن مع إيقاف التنفيذ وتغريمه آلاف الفرنكات فى عام 1997 وقوله أنها من اختراع "تشيرشل" و"أيزنهاور"، "ودى جول"، لتبرير احتلال ألمانيا وتدميرها، وتصريحه فى حوار أخير له بأن هجمات 11 سبتمبر منظمة من قبل الولاياتالمتحدة نفسها. بدأ جارودى المولود عام 1913 حياته السياسية مبكراً منخرطاً وبقوة فى أوساط اليسار الفرنسى الماركسى بشكل أساسي، خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، والتحق بالمقاومة الفرنسية، ضد المحتل النازى فى الحرب العالمية الثانية. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية زاد انخراطه فى أوساط اليسار الفرنسي، وإيمانه بالماركسية التى كانت موضة ذلك الزمان بين المفكرين الفرنسيين والغربيين بشكل عام، إذ كان الفضاء الأوروبى منقسماً بين الفلسفة الماركسية والوجودية، بحسب د. على مبروك أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، والتزم جارودى فى تلك الفترة بالرؤية الستالينية للنظرية الماركسية، وبالنظرية المادية فى المعرفة، والتى كانت تؤمن بالتفسير الآلى والميكانيكى للكون، وتقصى كل ما هو روحانى وإنسانى من اعتبارها. لم يكن ارتباط جارودى بالماركسية مجرد ارتباط فكري، بل ارتباط سياسي إذ كان عضواً بالحزب الاشتراكى الفرنسي، ووصل فيه إلى مراتب مرموقة، حتى السبعينيات، ولعل تلك النقطة هى إحدى نقاط الضعف التى يأخذها البعض على جارودي، وانعكست عليه سلباً، إذ كان جارودى يعطى الأهمية الأكبر لانحيازاته السياسية، فكان يكتب دائماً والسياسة فى ذهنه، كما يقول د. أنور مغيث أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة حلوان. مع صعود خروتشوف للسلطة فى الاتحاد السوفيتى وفضحه لممارسات الحقبة الستالينية والتى انحرفت عن تعاليم الماركسية، ولم تخلق اليوتوبيا الماركسية فى تحقيق الرخاء للطبقات العاملة، بل تحولت إلى ديكتاتورية دموية عنيفة، كلفت الإنسانية أنهاراً من الدماء. فبدأ جارودى فى مراجعة موقفه منها. عند تلك اللحظة، بدأت نغمة النقد فى كتابتاته للكتلة الاشتراكية فى العلو، فكان كمنظر وكفيلسوف محبطاً ومصدوماً مما آلت إليه الماركسية ليس كممارسة فقط ولكن كنظرية أيضاً كما يرى د.على مبروك، وشاركه فى ذلك عدد من المفكرين الفرنسيين، وأدى نقده للكتلة الإشتراكية لطرده من الحزب الاشتراكى الفرنسى خاصة بعد انتقاده العلنى للاتحاد السوفيتى لاجتياحه تشيكوسلوفاكيا. أزالت تلك المرحلة الغشاة عن عينى جارودى كما يقول مبروك، واكتشف أنه كان أسيراً لنظرية جامدة، فحمل على عاتقه مهمة إخراجها من أزمتها، التى يعد افتقارها للحس الإنسانى أبرز علاماتها، بحسب مبروك الذى يرى أن ماركسية ستالين كانت تضع الإنسان تحت سطوة المادة بشكل قاس يصبح معه الإنسان مجرد انعكاس لها، ولا كيان له ولا إرادة. وفى سبيل ذلك بدأ جارودى فى العودة للمسيحية البروتستانتية والتوفيق بينها وبين الماركسية، بحسب أنور مغيث، لإضفاء بعد روحانى عليها، وكانت العلامة المميزة لتلك الفترة هو كتابة "ماركسية القرن العشرين"، والذى انحاز فيه لماركسية منفتحة على كل شيء. ولكن أنور مغيث يرى أن محاولته لم تكن فلسفية بقدر ما كانت سياسية، ولم تترك أثراً عميقاً لا فى التفكير الفلسفى بشكل عام ولا على النظرية الماركسية، فهو لم يكن من مجددى الماركسية ولكن أحد أهم مفسريها وشراحها. فى تلك الفترة اكتشف جارودى الإسلام، وسافر لإيران حيث أعلن اعتناقه للإسلام هناك، ولكن الإسلام الذى عرفه أو اعتنقه جارودى لم يكن هو الإسلام الذى نعرفه نحن، كما يرى على مبروك إذ أن الإسلام الذى عرفه جارودى كان إسلاماً بلا ضفاف، إسلاماً منفتحاً متسعاً، كان يستلهم أساساً قراءة المتصوف الكبير ابن عربي. ويقول مبروك ان اعتناق جارودى الإسلام جعله يدرك أزمة الفكر الماركسى والأوروبى بشكل عام وينفتح على الفكر اللاأوروبي. يصف أنور مغيث رحلة جارودى مع الإسلام بأنها رحلة مليئة بالتحولات والصخب، بدأت بإعلانه اعتناق الإسلام فى إيران متأثراً بالمذهب الشيعي، ثم تحول نحو المذهب السني، انتقالاً إلى مرحلة أراد فيها التجديد فى الإسلام، وهى مرحلة جلبت عليه الكثير من النقد لآرائه الجريئة والتى طالب فيها على سبيل المثال بمساواة الذكر والأنثى فى الميراث، وهو ما جعل الجماعات الإسلامية التى تحمست له تدير ظهرها إليه. الدرس الذى نتعلمه من قراءة جارودى الآن برأى مبروك هو أن الإسلام أغنى وأثرى من القراءة المغلقة التى تحاول بعض الجماعات التى يسميها بالأصولية فى ترويجها، كقراءة وحيدة، وأن ندرك أن الإسلام الأصولى والمغلق هو الخطر القادم. نوع الإسلام الذى انفتح عليه جارودى كان إسلاماً منحازاً للإنسانية، إسلام يستوعب ولا يقصى ولا يطرد وجوهر الدرس هو أن علينا ألا نحيل الأشياء إلى مطلقات يخضع لها الناس.