لم يتحدث المصريون في روجيه جارودي إلا عن إسلامه، والكتب الفكرية التي أصدرها بعد إسلامه، وتناسي الجميع أن روجيه جارودي، المفكر الفرنسي الكبير الذي مات منذ أيام عن ما يزيد علي تسعين عاما، هو في الأصل مفكر ماركسي مادي جدلي، مادي تاريخي، وكان عضوا بارزا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، لكنه اختلف مع الحزب بسبب عدائه للستالينية، حيث عقليته المتحررة لا تقبل الأقدام الحديدية، ولا الأقفاص الجامدة، فابتعد «أو أُبعد» عن الحزب. إن الميزة المذهلة في روجيه جارودي هي حيوية العقل وتقلق الروح في انقلابات الذهن الذي لا يقر ولا يستقر علي حال، فبعد الماركسية، طاف جارودي قليلا علي الهيجلية، ثم بعدها طاف قليلا علي الليبرالية الوجودية، ثم بعدها تلامس مع الإسلام وأسمي نفسه رجاء جاردوي وتزوج فلسطينية اسمها سلمي وزار الشرق . والحق أن إنتاج جارودي الفكري المتصل بالإسلام لم يضف جديدا، ولم يكتشف غامضا، لكن جهده الأكبر وإسهامه التاريخي النظري الأعظم كان إبان مرحلته الماركسية، فقد كان بفكره المتمرد غير الخاضع للتعليمات السياسية النفعية الضيقة أبا لتيار الفكر الفرنسي المتمرد المجدد الذي ظهر منذ الستينيات مثل رولان بارت وألتوسير ودريدا وغيرهما من مفكرين بعد حداثيين وبعد ماركسيين، كما أنه كان بفكره المنفتح الرحب في النظرية المعرفية، ونظرية الأدب والفن، أبا لكل الاتجاهات الجمالية غير الضيقة، التي لا تحبس نفسها في صندوق ميت، مثل ثورية أراجون وإيلوار، وسريالية أندريه بريتون ورينيه شار وسلفادور دالي وسان جون بيرس وغيرهم. ولقد كان الفصل الخاص بالأدب والفن في كتابه العمدة «ماركسية القرن العشرين» واحدا من أهم الدوافع التي دفعت جيلنا الأدبي إلي التجديد والجرأة وكسر الثوابت الفنية وغير الفنية، وهو نفسه الفصل الذي وضع أدباء داخل خانة الأدباء العظماء المنتمين إلي آلام شعوبهم الاجتماعية، وكان الكثير من جمهرة شباب الاشتراكيين يرون أنهم أدباء قليلو القيمة، محبطون، رجعيون عدميون لا دورا ايجابيا لهم، أقصد أدباء مثل: فرانز كافكا، ويوجين يونسكو وأربال ويوجين يونيل وغيرهم. وداعا لجارودي المؤسس، الذي لا يقل في الفلسفة الفرنسية عن جان بول سارتر وديكارت وكير كجارد وغيرهم، ولا يقل أثره علي ثقافتنا العربية عن تأثير ماركس وهيجل وابن خلدون، أنا شخصيا أدين لجارودي بسعة التصور الجمالي والأدبي، وبالرغبة في فتح السكك المغلقة.