لم أكن أتوقع أو أتخيل أن يهاجر مصريون بصورة غير شرعية إلى زامبيا.. وما أفزعنى وأحزننى أكثر أن بعضًا من الشباب – بل الكبار- يفكرون منذ فترة فى الهجرة.. وبعضهم يهاجر بصورة رسمية.. والأغلبية ممن ضاعت آمالهم وأحلامهم.. يهاجرون سرًا وبصورة غير شرعية.. إننى أرى هذا المشهد وكأن «كرة النار» التى يتقاذفها الجميع هى السبب فى التفكير فى ترك الوطن.. بحثاً عن لقمة العيش أو الأمان المفقود.. أو رغبة فى الغد الموعود! بل إننى أتابع على الشبكة العنكبوتية صفحات ومواقع وبوابات متخصصة فى الهجرة والسفر إلى الخارج.. خاصة من الشباب الذى يفتش فى كل بقاع الأرض عن مهرب ينفذ منه.. أو فرص عمل فى آخر الدنيا.. رغم أنه ينتمى إلى أم الدنيا!! ورغم أننى سمعت أحد الدبلوماسيين البارزين يتغنى بأم الدنيا.. إلا أن الأمر الواقع يقول إن هذه المكانة لم تعد كذلك.. بل قد لا تعود أم الدنيا كما كانت حنونة بأبنائها رحيمة بهم.. مُرحبة بضيوفها.. وزوارها.. فنحن نرى كرة النار فى كل يوم على أرض الكنانة تنتقل من مكان إلى آخر.. ويقذفها صناعها خشية أن يحترقوا بها أو تحرق آخرين. فلا أحد يريد أن يتحمل بصدق وبجد مسئولية البحث عن ملاذ حقيقى للخروج من دوامة العنف ومن دائرة النار الجهنمية التى ما إن تخمد فى مكان.. حتى تشتعل فى آخر. ويجب أن نعترف صراحة بأن أعداءنا هم أكبر المستفيدين من تضخيم كرة النار.. ولكننا أيضاً مسئولون عن سوء التعامل معها.. ومسئولون كذلك عن الفشل فى إخمادها. ولعلنا نتذكر حديث أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم (القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار).. صدقت يا أطهر خلق الله. فنحن نعيش زمناً زادت فيه الفتن والمحن وعلا صوت المنافقين والمخادعين والمضللين.. حتى أصبحت كلمتهم هى العليا.. بكل أسف وأسى وحزن. نعم إن كرة النار التى نقبض عليها – قهراً وكمداً – تصيب قلوبنا بالإحباط واليأس نتيجة ما نشهده من أحداث دامية وتطورات قاسية على أرض الكنانة .. تذهب فيها أرواح بريئة وفلذات الأكباد الذين فشلنا فى احتوائهم وضمهم إلى حضن الوطن. نعم قد يخطئ بعضهم ولكنهم فى البداية والنهاية أبناؤنا.. ومن أصلابنا.. ولا يمكن أن نتخلى عنهم أو نتنكر لهم. وما أقصده هنا التعامل مع أزمة طلاب الجامعات.. ويجب أن نعترف بأننا قد أخطأنا بصراحة ووضوح فى علاج هذه الأزمة الخطيرة من البداية إلى النهاية.. وظن البعض أن القوة هى السبيل الوحيد لإخماد احتجاجاتهم وأن المواجهة الأمنية المباشرة هى الخيار الأول للخروج من الأزمة وهذا خطأ مركب.. فالشباب فى ذروة العنفوان وهم طليعة المجتمع المنتفض دائماً وفى كل المناسبات.. كان يجب أن نجلس معهم.. ونتحاور ونتشاور وننصت إلى آرائهم ورؤاهم.. وننتهى من خلال الحوار الجاد إلى صيغه ترضى كل الأطراف وتحفظ للوطن مصالحه وأمنه وأمانه.. وأبناءه أيضًا.. أما الاستمرار فى البطش والتنكيل والمواجهة الدموية فلن يزيد الأمور إلا سوءاً وتصاعداً وتعقيداً. وإذا كانت أزمة الجامعات هى مجرد نموذج لكرة النار داخل مصر.. فإن هناك العديد من كرات النار الإقليمية التى يقوم صناع الشر بإشعالها وتأجيجها ويتقاذفونها من دولة إلى أخرى.. وكلنا يشهد ويحزن لما يحدث فى طرابلس الليبية وطرابلس اللبنانية.. وما يحدث فى دول الجوار بما فى ذلك اليمن وسورياوالعراق.. والبقية تأتى.. حتى من يظن أنه فى مأمن وجزيرة منعزلة.. فكرة النار الخطيرة تهبط كالشيطان على هذه الأقطار فتحيلها إلى خراب ودمار! ونحن نعلم من يتلاعب بمصائر الأمم والشعوب.. من خلال الحروب المذهبية والدينية والطائفية والعرقية.. وها هم أكراد سوريا يسعون لإعلان دولتهم المستقلة.. على غرار ما يحدث فى العراق المقسمة إلى ثلاث مناطق متباينة (كردية – سنية – شيعية). وكأن صناع الشر يريدون تطبيق مؤامرة التمزيق على أرض الواقع قبل أن يتم إعلان هذه الدويلات رسمياً. ونحن هنا فى أرض الكنانة يجب أن ندرك أننا المستهدفون فى المقام الأول من هذا المخطط الشيطانى للتمزيق والتشتيت.. ولعل تعمد تقسيم الشعب المصرى إلى شعبين سواء بالأغنية البلهاء الخرقاء.. أو بالأفعال الشيطانية المبرمجة.. هو أخطر ما تواجهه مصر.. فتقسيم القلوب والعقول هو المقدمة الفعلية لتمزيق الأوطان فانتبهوا يا أولى الألباب والأفهام.. وانتبهوا أيضاً يا أصحاب المسئوليات.. ويا من تمتلكون السلطة والسطوة فمصر أمانة فى أعناقكم أولاً.. كما هى أمانة فى أعناقنا جميعاً. لا نريد أن نفتح أبواب الشياطين لينفذوا منها إلى قلوب المصريين ويفسدوا عقولهم.. ويدمروا هويتهم.. والمسئولية الحقيقية تقتضى أن يدرك المسئول – أياً كان موقعه – خطورة هذه المخططات التى تستهدف البلاد والعباد.. وهو مطالب الآن باتخاذ إجراءات حاسمة ورادعة لمواجهة كرة النار التى يتقاذفها الجميع.. حتى لا تتضخم ولا يستطيع أحد إخمادها. وللأسف الشديد عندما نتجول فى الأسواق أو نذهب لقضاء مصالحنا.. نلاحظ مدى تفشى الغش والكذب والخداع فى تعاملات الناس.. والضحية دائماً هم الغلابة والبسطاء الذين لا يجيدون ألاعيب النصب والفهلوة. فالأساس هو الغش فى البيع والشراء وليس العكس.. والرشوة هى الأساس فى قضاء مصالح الناس.. للأسف الشديد. وأعرف شخصياً وأتألم لذلك أشد الألم حالات لكبار السن الذين يكابدون المرض أمام أبواب مسئولى المعاشات والعلاج. بينما هؤلاء هم الأولى بالرعاية والاهتمام. وليس عليه القوم وأصحاب الواسطة!! وللأسف الشديد فقد عادت هذه الظواهر والممارسات بصورة أشد وأخطر من العهود السابقة.. ويجب أن نسارع بمواجهتها.. والقضاء عليها.. وإذا أردنا القضاء على كرة النار التى نراها فى كل مكان يجب أن نحارب الفساد المتفشى فى كثير من المواقع والذى يكبد الاقتصاد المصرى عشرات المليارات.. كما يدمر الثقة فى الحكومة ومسئوليها.. وهى ثقة مفقودة أصلاً منذ زمن طويل. كرة النار التى نتحدث عنها يصنعها الإقصاء والتهميش وإلغاء الآخر.. وهذا الآخر هو الابن والابنة وربما الزوجة والأخت.. فكل إنسان حر فى أن يختار طريقه وتياره السياسى وانتماءه الأيديولوجى.. ولكن فى إطار الأسرة المصرية الواحدة ?? ? ? ? ? ? صدق الله العظيم.. بل إن هذا التباين هو سر استمرار الحياة وهو الذى يعطيها قوة الدفع والتدافع المطلوب.. بل هو البهارات والتوابل التى تمنح (الطبخة المصرية) المذاق الخاص بها! وحتى لا تتطور كرة النار يجب أن تكون لدينا عملية ديمقراطية حقيقية وحريات واقعية نراها ونشعر بها.. ولا نتشدق بها فى وسائل الإعلام التى يمارس أغلبها الكذب والتضليل.. فالديمقراطية الحقيقية ستؤدى إلى استيعاب كل التيارات والأحزاب كى تعمل فى النور وفى إطار القنوات المشروعة.. وحتى لا تعود إلى العمل تحت الأرض ففى هذا مصلحة للوطن بأسره.. حاكميه ومحكوميه.. لمن هم فى السلطة قبل المعارضة. وقد يسأل البعض: ومن يتحمل مسئولية إخماد كرة النار الملتهبة التى نراها فى كل مكان؟ بداية يجب أن نعترف بأننا مسئولون جميعاً عن صناعتها.. وأيضاً عن إخمادها.. ولا يظن أحد أنه فوق المسئولية أو المساءلة. فالبعض ساهم فى صناعتها عمداً.. وآخرون عملوا على تضخيمها جهلاً.. ولكننا فى نهاية المطاف أمام الأمر الواقع: كرة النار المتصاعدة التى نريد احتواءها وإخمادها. وهنا تبدأ المهمة من البيت.. من الأب والأم اللذين يجب أن يحتضنا أبناءهما ويشعروهم بالأمن والأمان. كما أن الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى والنقابات لها دور حيوى فى إخماد كرة النار باحتواء كل أعضائها وتقديم كافة أشكال المساعدة لهم وبإيضاح حقائق الموقف أولاً بأول. أما الحكومة فهى التى تتحمل المسئولية الكبرى فى هذا الصدد. نعم نقول بكل صدق وإخلاص.. يجب أن تعمل الحكومة على بناء جسور الثقة وفتح القنوات المغلقة مع كل الفئات والتيارات خاصة الشباب والبسطاء والمهمشين. يجب أن ينزل كل مسئول من برجه العاجى ويذهب إلى سكان المقابر والعشوائيات ويتجول فى الأسواق والأحياء ودور العلم والعبادة.. ويلتقى مع الناس.. يعرف همومهم ويضع الخطط العاجلة لحلها. بقى أن نقول إن إشراك الجميع فى تحمل المسئولية (مسئولية الفشل والنجاح) هو أحد مخارج هذه الأزمة.. كما أن تطبيق القانون على الجميع دون استثناء وبذات المعايير والقواعد.. ومحاسبة المخطئ أياً كان موقعه من وسائل الخروج من هذه الأزمة الطاحنة وإخماد كرة النار المتصاعدة.. ولكن السؤال الأهم: متى نعمل بصدق وإخلاص لتحقيق هذه الأهداف.. ومتى تخلص النوايا وتصفو القلوب لإخماد كرة النار حتى لا نحترق بها جميعًا؟!