حزنت أشد الحزن لتوقف قطارات الصعيد بعد ساعات من عودتها للعمل يوم السبت الماضى.. قبل أن تعود مرة أخرى يوم الخميس الماضى أيضًا.. فالصعيد من أشد المناطق المحرومة من الخدمات والحقوق الأساسية التى يجب أن نقدمها له.. كواجب وطنى ودستورى وقانونى.. وليس مِنَّة أو تفضلاً.. خاصة أن أهل الصعيد هم أصل الحضارة المصرية.. كما أنهم رواد التعمير فى كثير من الدول العربية.. حيث إن الصعيدى مقاتل صلب لا يأبه حرًّا ولا بردًا ويتحدى أصعب الظروف. كما أن توقف قطارات الصعيد ثم عودتها له دلالات عدة.. لعل أهمها سوء تقدير الموقف من النواحى العملية والأمنية والإنسانية أيضاً. فقد كان مطلوباً دراسة الموقف بعمق وتهيئة الظروف المجتمعية والأمنية لإعادة تشغيل هذا الخط الحيوى الذى يربط الجنوب بالشمال.. مثل الشريان الواصل بين القلب والجسم. كان من المطلوب إشراك أهل الصعيد والأجهزة المدنية والمجتمعية – قبل الأمنية والسياسية – فى تهيئة الظروف لإعادة إطلاق (وابور) الصعيد.. حتى لا تسقط هيبة الدولة.. وتضيع على قضبان السكة الحديد.. كما سالت دماء الأبرياء على مدى عقود.. وكأن الصعيد منكوب.. ومكتوب عليه أن يكتوى بنار (الوابور)! وعندما نراجع المشهد المصرى الحافل بالأخطاء والأزمات.. نتذكر قانون عدم محاسبة الوزراء المسئولين عن أخطاء ارتكبوها بحسن نية.. ورغم أن هذا المشروع الميت يتناقض مع أبسط القيم الإنسانية والقواعد القانونية والدستورية.. فإنه يكشف عن خطأ فى التفكير والتخطيط، إضافة إلى الأخطاء المتكررة التى يدفع ثمنها المواطن البسيط. أما المسئول فهو منزه عن الخطأ والزلل ولا يجوز محاسبته لأنه يخطئ بحُسن نية!! ولعل المشهد الأكبر والأخطر هو مشهد صياغة الدستور الجديد الذى يعبر عن هوية مصر وحضارتها وتاريخها وقيمها وعقيدتها.. والمفروض أنه سوف يستمر لسنوات طويلة.. ولكنه للأسف لم يحظ بمشاركة مجتمعية وسياسية وحزبية وشعبية واسعة.. ولم يسمع الشعب عن جلسات الحوار وكيف تجرى صياغة مواده وبنوده.. وكثرت الاعتراضات على ما يتسرب من أنباء وأخبار الدستور على استحياء! فكيف ندعو الناس للاستفتاء على دستور لم يشاركوا فى صياغته وصناعته؟ وكيف نضمن استمرارية هذا الدستور وسط الأمواج السياسية والأمنية العاتية التى تشهدها مصر؟ إن الوضع الحالى والرؤية المستقبلية الثاقبة والمصلحة الوطنية العليا كانت تقتضى أن يشارك الجميع فى صياغة الدستور.. وأولهم المعارضون.. حتى لا نشهد مزيداً من العواصف والمشاكل فى المستقبل القريب والبعيد. ذات الأزمة حدثت بشكل أشد وأعمق مع قانون التظاهر الذى صاغته الداخلية وصدر دون أن يقرأه أحد أو يشارك فى إعداده ومناقشته قبل إقراره رسميًا.. وتطبيقه فعليًا بشكل تعسفى.. مما خلق الكثير من المشاكل.. وكان من الأحرى – بل من الواجب – استطلاع رأى الأحزاب والسياسيين والمواطنين البسطاء والمتظاهرين أيضًا – من كل التيارات – قبل إصدار القانون.. حتى يخرج معبرًا عن الغالبية العظمى من الشعب ويراعى كافة المعايير والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان. وقد سبق أن انتقدت أسلوب طرح مشروع السلطة القضائية السابق الذى لم تشارك الهيئات والمؤسسات القضائية فى صياغته وكان أحد محاور الصراع السياسى أوائل العام الحالى.. بل كان أحد أسباب الأزمات المتصاعدة التى شهدناها على مدى سنة كاملة.. لماذا؟ لأن القضاة لم يشاركوا فى صياغته.. ولأنهم شعروا بأنه فرض عليهم قسرًا. فلماذا نكرر ذات الأخطاء.. لماذا تخرج القوانين دون مشاركة شعبية وحزبية واسعة؟ والمطلوب ليس فقط تعديل هذا القانون.. بل تغيير نهج التعامل مع المشاكل والأزمات المطروحة.. المطلوب أن نبدأ مواجهتها من القواعد الجماهيرية.. من أصحاب الشأن أنفسهم.. من المعارضين قبل المؤيدين.. فقد انتهى زمن فرض القوانين والقرارات بالقوة والقهر والكبت. يجب أن يدرك كل مسئول فى موقعه – بدءًا من رئيس الفراشين وحتى رئيس الجمهورية – أن مصر قد تغيرت ولن تعود كما كانت أبدًا.. فقد انكسر حاجز الخوف وانهارت إمبراطورية الكتمان والتعتيم وسط هذا الطوفان الهادر من وسائل الاتصال الحديثة والمتسارعة. فلم يعد أحد قادرا على أن يبنى أسوارًا حديدية.. أو يكمم الأفواه أو يكسر إرادة الشعوب. ويجب أن ندرك جميعًا أن الأمن لن يتحقق بقوة السلاح.. بل بالقناعة والمشاركة المجتمعية الواعية.. فلن تستطيع الدولة بكل إمكانياتها وقدراتها أن تضع وراء كل مواطن جنديًا أو تنشر المدرعات فى كل مكان.. ولكننا نستطيع بالحوار أن نخلق حالة من التفاهم ومساحة من التوافق للاقتناع بأن الأمن ضرورة إنسانية واجتماعية حيوية.. فيجب أن نكون جميعا رجال أمن.. انطلاقًا من المنزل.. ثم الحارة والزقاق والحى والمدينة.. وحتى الوطن بأسره. أظن أن حالة الود التى كانت سائدة فى مصر القديمة - ريفها وصعيدها وقاهرة المعز- كانت نموذجًا لصناعة الأمن على أرض الواقع.. دون قهر أو كبت أو سلاح.. فكان الناس آمنين فى أنفسهم وقلوبهم وعقولهم.. قبل أن يشهدوا الأمن بأعينهم ويصنعوه بأنفسهم على أرض الواقع. وحتى نخرج من هذه الهوة السحيقة والأزمات المتلاحقة يجب أولا أن نبدأ بمراجعة المشهد المصرى.. بشكل عام.. ونحدد مواطن الخلل وأولويات الأزمات. وإذا لم نعترف بأن هذه الأزمات خطيرة وتؤثر على مستقبل الوطن.. فلا فائدة من المراجعة ولا قيمة لأى مشاركة. والمطلوب ثانيًا الإنصات لصوت الشعب.. خاصة الغلابة والمساكين المطحونين فى الشوارع ووسائل المواصلات والذين يكتوون بنيران الأسعار.. هؤلاء هم الأولى بالرعاية والاهتمام وحل المشاكل. وكما انتقدنا حكومات سابقة.. فإن حكومة الببلاوى ليست فوق المساءلة والمحاسبة (بكل حسن نية) لأنها مسئولة عن كل تلك المآسى التى نشهدها.. وإذا كان هناك من يطالب بتغيير بعض الوزراء الفاشلين.. فإننى أعتقد أننا بحاجة إلى تغيير الحكومة كلها التى بدأت وسط ظروف مختلفة وأثبتت أنها ليست قادرة على حل أغلب الأزمات.. وآخرها أزمه الأنابيب! الأهم من ذلك أنه يجب تغيير الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع الموقف الحالى انطلاقا من التطورات المتلاحقة والمتصاعدة التى تزيد المستقبل غموضًا وتعقيدًا. فليس عيبًا أن أخطئ فى التخطيط.. ولكن العيب يكمن فى الإصرار على الاستمرار فى الخطأ. والمقاتل فى المعركة يجب أن يحظى بالمرونة والحكمة والحنكة ويعدل من خططه واستراتيجياته وتكتيكاته وفقاً للتطورات الميدانية.. فهذه الخطط ليست قرآنا ولا إنجيلا.. وليس هناك معصوم سوى الأنبياء عليهم أزكى الصلوات والسلامات. وإذا أرادت الحكومة الخروج من هذه الهوة السحيقة فعليها فتح الحوار الجاد والسريع مع كل الأطراف والأطياف والتيارات للاستماع إلى آرائها فى كل هذه الأزمات وكيفية حلها والخروج منها. يجب أن نتعلم فن الحوار والإنصات إلى كل الأطراف.. وأن نتجاوب مع الجميع دون استثناء.. وحتى على المستوى الأسرى يجب أن نعدل بين كل الأبناء.. وحتى الزوجات إن كان هناك من يستطيع أن يتزوج أصلا!! إننى أشعر بالقلق العميق على مستقبل هذا الوطن.. أقولها بصدق وإخلاص وبكل الحب لهذه الأرض الطيبة التى تربيت أنا وأبواى وأجدادى فيها.. وأتمنى أن يعيش فيها أبنائى إلى أبد الآبدين.. بمشيئة الله . لذا فنحن نريد أن نغرس فيهم الانتماء لهذا الوطن بالفعل وليس بالكلام والأغانى العابرة والطائرة. مازلت أتذكر أغنيه عبد الوهاب (يا وابور قولى رايح على فين).. ولست أتحدث عن (وابور) الصعيد.. بل عن (وابور) أرض الكنانة نعم نحن نأمل أن ينطلق هذا القطار ويصل إلى محطته المنشودة.. بأيدى كل أبنائه.