يمسك المايسترو بعصاه يحركها ذات اليمين وذات الشمال فإذا بالآلات المختلفة تنسجم فى لحن واحد وهى شتى.. المايسترو يتحرك وفقا لنوتة موسيقية أبدعها مؤلف.. وتدرب الجميع جيدا على العزف وكانوا قبلها بسنوات قد عانوا من مرارة الفشل والنشاز.. فقد تم إدخالهما إلى مسرحية العمليات بطريقة عشوائية.. وهذه هى المسافة بين انكسار 67.. وانتصار 73. ومن الظلم أن نتهم القوات المسلحة بأنها انهزمت لكن حقيقة الأمر.. أن الهزيمة فقط كانت من نصيب القيادة.. ولما خرج جمال عبدالناصر على الناس بكل شجاعة.. يعلن تحمله لكامل المسئولية بحكم رئاسته للبلاد واعتماده المطلق على قائد الجيش عبد الحكيم عامر وثقته فيه وقد قال له فى اجتماع أخير عندما سأله: هل أنت جاهز للحرب؟ وكانت الإجابة على الملأ أمام كبار مسئولى الدولة: «برقبتى يا ريس». ولكن الشعب الذى يثق تمام الثقة فى وطنية رئيسه وإخلاصه لبلده وانحيازه للفقراء.. شكلا وموضوعا وقولا وفعلا.. هذا الشعب خرج عن بكرة أبيه يقول لجمال: نحن نرفض أن تتنحى.. عد إلى مقعد القيادة. وعاد يجدد دماء الجيش، ورأينا ثمار الروح الجادة الجديدة فى معركة رأس العش بعد أيام قليلة من هزيمة معركة لم يدخلها الجيش المصرى.. وبدأت عجلة الإعداد تدور بقوة.. أدركت قيادة القوات المسلحة أن الجندى المؤهل يعرف كيف يتعامل مع سلاحه مهما كانت درجة الكفاءة، مقارنة بأسلحة العدو الحديثة المتطورة، عرفت القيادة أن تأهيل وتدريب الجنود والضباط لا يمكن أن يعوض غياب الإرادة القتالية.. ثم إن الأسلحة المختلفة.. الطيران، البحرية، الدفاع الجوى، المشاة، المدفعية، الإشارة والأسلحة الإلكترونية والكميائية.. هذه الأسلحة كلها يجب أن تتناغم وتتكامل. كان كل هذا يتم ومصدر السلاح الروسى وهو الوحيد يتلاعب بنا ويحاول أن يفرض علينا إرادته.. وهو ما عالجه السادات بعد ذلك عندما كان جريئا وقام بطرد الخبراء الروس ولأن كل شىء تغير.. تحولنا من ردود أفعال إلى أفعال.. وعرفنا لأول مرة فى سنوات حرب الاستنزاف كيف تهاجم.. وبدأ رجال القوات الخاصة يعبرون فى عمليات خاصة خلف خطوط العدو. كان الفريق محمد أحمد صادق وزير الدفاع يرى أن الجيش ليس جاهزا للحرب ويجب الانتظار حتى يكتمل سلاحه.. لكن الفريق الشاذلى رئيس الأركان.. رأى أن هذا يطيل أجل الدخول فى الحرب والشارع المصرى لم يعد يحتمل الصبر أكثر من هذا.. وكانت هى أيضا وجهة نظر الرئيس السادات.. وبناء عليه أعد خطته (بدر) والتى كانت من قبل تسمى (جرانيت) واعتمد فيها على خط الدفاع الجوى الذى يمكن أن يؤمّن عبور الجيش لمسافة 12 كيلومترا ثم ترتكز القوات.. لكن الحرب الطويلة تعنى كارثة بالنسبة لإسرائيل لأن قواتها الاحتياطية هى التى تعمل فى كافة المجالات، وبالتالى فإن الحرب هى شلل فى أنشطة الحياة.. صناعة وزراعة وطب وتجارة.. وهى لن تتحمل ذلك وبذلك يتحقق النصر بالمعدات والأسلحة المتاحة.. اعتمادا على استثمار نقاط الضعف عند العدو. كان الشاذلى الذى تخرج فى الكلية الحربية عام 1940 قد شارك فى الحرب العالمية الثانية، ثم حرب فلسطين وحرب 56 وحرب اليمن، ثم حرب 67 وكانت الكتيبة التى يقودها هى الوحيدة التى توغلت فى سيناء حتى حدود فلسطين، ورغم ضرب الطيران وصعوبة الانسحاب بدون غطاء جوى.. إلا أنه تمكن مع رجاله من المناورة مع الطائرات الإسرائيلية. والعودة بعد أن عرف من الراديو العبرى بانسحاب الجيش.. ولما تولى قيادة أركان الجيش بعد استشهاد البطل عبد المنعم رياض.. كان هذا يعنى أن الجيش قد تغير فالبطل القائد لا يجلس منعزلا بعيدا عن رجاله، ومن هنا وقعت لحظة استشهاده على جبهة القتال. تعلم الجيش من أخطاء الماضى.. والتحمت القيادة مع الجنود.. وتم حساب كل صغيرة وكبيرة حتى المعدات التى يحملها المقاتل على ظهره.. كم يمكن أن يمضى بها وما الذى يمكن الاستغناء عنه لتخفيف الحِمل.. وقطع مسافة أطول.. زادت التدريبات حتى أصبحت الحرب مجرد نزهة، كما ذكر أحد أبطالها.. واستخدم الجيش لعبة الخداع مع العدو.. سواء فى اختيار التوقيت أو فى الأخبار التى تم تسريبها هنا وهناك لتأكيد استرخاء القوات المسلحة وأنها لن تدخل الحرب فى الوقت الحالى. وتجلت العبقرية المصرية فى فتح ثغرات خط بارليف الحصين باستخدام المياه.. وهى الفكرة التى أعلنها الضابط المهندس باقى زكى.. ودعّمها القادة وحفظوها باسم صاحبها حتى وصلت إلى جمال عبد الناصر وكان «باقى» قد استوحاها من فترة عمله بالسد العالى.. وكانت إسرائيل تتباهى بأن هذا الخط المنيع لا يمكن تحطيمه إلا بالنووى وهو أمر مستحيل الحصول عليه فى هذا الوقت. وفى اللحظة المناسبة عند الثانية وخمس دقائق ظهرا انطلق الطيران المصرى يدك حصون الصهاينة، ثم بدأت الكبارى تتمدد على طول قناة السويس وتحرك الجميع وكل فرد يعرف مقدما دوره فى هذا اللحن العظيم، كانوا يُقدِّرون الخسائر ب 2%.. لكنها تجاوزت ال 20% بقليل وهى معجزة بكل المقاييس. وابتكر الجندى المصرى أساليب لم تكن معروفة من قبل فى الحروب العسكرية وراحت الأكاديميات فى أرجاء العالم تقوم بتدريسها. سدوا خزانات النابالم أسفل القناة، بل استخدموها لصالحهم فيما بعد.. كانوا يضعون شكائر الرمل الفارغة فى مواسير العادم للدبابات وبذلك لا تستطيع الحركة، ثم يهجمون عليها من أعلى ويفجرونها بمن فيها. اكتمل عزف الأوركسترا بنجاح منقطع النظير، كل عازف التصق بالآلة التى يعزف عليها، فلم تعد تعرف من العازف من المعزوف كل شىء فى توقيته وحساباته.. توحد الكل نحو هدف عظيم كان مستحيلا فقهروه وتغلبوا عليه فى إطارتام من السرية والحذر. دفعنا الغالى لاسترداد سيناء.. ولم نكن نعرف أن فئة من بيننا سوف تبيعها بأبخس الأثمان لمجموعة ضالة من المرتزقة وتتخذها مرتعا لمحاربة جيش بلادنا العظيم الذى حررها بالدم والصبر والنضال. لهذا نعتبر عام 2014 العبور الثانى لو كانوا يفهمون!.