ما بين الصحفى والأحداث التى يتناولها بقلمه مساحة، هذه المساحة تتيح له التحرك بحرية غير مقيدة بالوجدان نحو الحدث والشخوص التى يحتويها، إما أن تتلاشى هذه المساحة ويصبح الصحفى جزءًا من الحدث أو له علاقة مباشرة به فهذه مغامرة إنسانية وصحفية تستحق أن ترصد. وفى مشوارى الصحفى صادفنى عدد من هذه المغامرات بعضها يتعلق بأحداث حزينة ومأساوية وقليل منها يتعلق بأحداث مبهجة أو بطولات مثار فخر واعتزاز ، ولن يسقط من الذاكرة ما حييت - إن شاء الله - حكاية الزميل أسامة إبراهيم كمثال وعنوان على المغامرة الإنسانية - الصحفية الحزينة، هذه المغامرة التى أضيف إليها منذ أيام قليلة مغامرة أخرى وبطلها هذه المرة أيضا زميل صحفى نابه من زملائى فى مجلة أكتوبر هو ياسر البحيرى ومغامرته تتعلق بوالده أحد أبطال الحرب التى تحمل هذه المجلة اسمها: «أكتوبر» . (1) أمر يتسم بالخطورة عندما يطلب رئيس العمل فى مؤسسة صحفية (جريدة أو مجلة) من صحفى أن يغطى أحداثًا مأساوية يكون فيها ذووه هم الضحايا، فى حالة مثل هذه يكون على الصحفى الذى هو جزء من الحدث أن يتخلص سريعا من ذاته، ويكبت مشاعره أو يسيطر عليها إلى الحد الذى يمكنه من إنجاز مهمته الوظيفية، ومهنة الصحافة ليست مجرد وظيفة ولكنها أكثر من ذلك بكثير وهذه حقيقة لا يعرفها إلا من اشتغل وانشغل بها. والمأساة التى أكتب عنها هنا وقائعها تعود إلى شهر نوفمبر من عام 1994 حين اندفعت السيول ليلا بشدة من الجبال التى تحاصر قرية درونكة من أعمال أسيوط وتباغت بيوت البسطاء الذين يسكنون القرية ، وهى فى أغلبها بيوت هشة ضعيفة، لم يعرف أصحابها حين بنوها شيئًا عن معامل الأمان ضد كوارث الطبيعة، ولم يملكوا من الأموال ما يمكنهم من تحصين بيوتهم ضدها أو تجنب مخرات السيول التى هاجمتهم فى هذا التاريخ. فاكتسحت عشرات المنازل وأخذت فى طريقها مستودعات للبترول قريبة من القرية وسببت صواعق نتج عنها شحنات كهربائية قدرت بمليون ونصف المليون كيلو وات من الكهرباء، فأشعلت المواد البترولية وحوصر أهل القرية بين الماء والنار، ليحصد النقيضان أرواح العشرات بل المئات من أهالى دورنكة. وقرر المسئول عن مجلة روزاليوسف - وأظنه فى هذا التاريخ كان الأستاذ عادل حمودة - أن يختار زميلًا صحفيًا شابًا هو أسامة إبراهيم ليغطى الحدث.. لماذا أسامة إبراهيم؟ لأن القرية المنكوبة بلدته ومسقط رأسه، هو ابن درونكة والضحايا الذين وقعوا فى الحادث هم أهله وناسه، وتشكك البعض.. هل يمكن أن ينجز أسامة موضوعا صحفيا فى مثل هذه الظروف؟! وذهب أسامة فغطى الحدث وعاد بالكلمات والصور ودارت المطبعة وصدرت المجلة تحمل تحقيقًا من أروع ما قرأت ، أو قل من أصدق ما قرأت فى الصحافة المصرية.. كلمات كتبها صحفى بمداد قلبه يصف فيها ما وقع على أعمامه وخالاته وأصدقاء الطفولة والصبا، كتب أسامة وقرأت سطورا مبللة بدموعه ومنحوتة من مشاعره وشممت فيها رائحة شياط أعصابه فاستحق إنجازه الصحفى أن يبقى فى ذاكرتى إلى اليوم. (2) والحكاية الأخرى التى تستحق أن تروى عن الصحافة عندما يداخلها المشاعر والوجدان هى حكاية ياسر البحيرى، الذى قرر قبل مدة وجيزة أن ينجز مهمة تردد كثيرا فى إنجازها كصحفى وسبب التردد أن موضوعه الذى سوف يتناوله بقلمه هذه المرة يتعلق بإنسان هو جزء منه.. هو والده، وقد قرر ياسر أن يجرى معه حوارا صحفيا.. لكن كيف يجلس ياسر أمام أبيه جلوس الصحفى أمام مصدره ويستجوبه؟! وصعوبة الأمر كما أعتقد تتلخص فى أن ياسر بحسب تربيته هو واحد من هؤلاء الأبناء الذين رأوا آباءهم مثل الجبال التى لا يمكن تسلقها، وكل ما يستطيعه الابن فى مثل حالته هو أن يقف أمام هذا الجبل مبهورا، وقد زاد من انبهار ياسر بوالده هذه الشذرات التى عرفها منه عن دوره فى حرب أكتوبر وما قبلها، ولسنوات طويلة لم يحاول ياسر أن يجمع هذه الحكايات فى أوراق ويلضمها فى كلمات منتظمة فقد كان هذا الأمر بالنسبة له مغامرة، لكنه قرر أخيرا أن يخوض هذه المغامرة وأن يجلس أمام والده محمود السيد سليمان البحيرى ويقوم بدور الصحفى، وذلك بعد سنوات من التحاقه بالعمل الصحفى وإنجازه لعشرات التحقيقات والحوارات الصحفية . وفى لحظة شجاعة جلس ياسر قريبا من البطل الذى أنجبه ورباه، وضغط على «زر الكاسيت» وتوالت أسئلة الابن تنعش وتستثير ذاكرة الوالد لاستعادة أيام انكسار وانتصار جندى مصرى التحق بالخدمة قبل نكسة عام 1967 وذاق مرارتها ، وعاش معارك الاستنزاف قبل أن يشارك فى حرب استعادة الكرامة عام 1973. وانتهى الحوار وسجله ياسر ولم يستطع نشره إلى وقت كتابتى لهذا المقال لأسباب لا دخل له فيها، وأتيح لى أن أطلع على ماكتبه الزميل وتوقفت عند بعض العبارات ومنها هذه العبارة التى وردت فى مقدمة الحوار يسجل فيها الكاتب مشاعر رصدها على والده: «عندما بدأت الحوار تعثرت كلماته وغلب الانفعال على صوته وهو يتذكر». (3) كانت معركة «رأس العش» هى أولى المعارك التى ذكرها البحيرى الأب وقد خاضها ضمن 30 مقاتلا وصفهم الأخير بالصقور (كما ورد فى أوراق البحيرى الابن). ومعروف أن هذه المعركة وقعت بعد أسابيع قليلة من نكسة 67، ورأس العش هو اسم بلدة كان فيها موقع كتيبة مصرية شرق القناة ولم تستطع القوات الإسرائيلية التى احتلت سيناء فى حرب 67 أن تستولى علي هذا الموقع وظل مثل الشوكة فى ظهر الإسرائيليين الذين هاجموه بحشود ضخمة ونيران كثيفة صمد لها عدد قليل من جنودنا البواسل وردوها مدحورة، وكانت مصر وجيشها فى أمس الحاجة لهذه المعركة أو كمال قال البحيرى لابنه وهو يحاوره: «كنا فى حاجة ماسة إلى وميض أمل لنكسر حاجز الشعور بالهزيمة». (4) محمود البحيرى كان جنديًا من جنود الضفادع البشرية وهذه الفئة من الجنود التى تنتمى لسلاح البحرية اضطلعت بأدوار وحققت بطولات عديدة سواء فى حرب الاستنزاف أو ما تلاها من معارك العبور، وفى حواره الإنسانى الرائع الذى لا أريد أن أحرقه على الزميل ياسر لعله ينشره قريبا هناك تفاصيل عديدة تتناول الأدوار والبطولات التى شارك فيها والده، فقط. ما أريد أن أشير إليه هنا هو هذا الدور الذى رشح له الجندى محمود البحيرى فى العملية الشهيرة لتدمير البارجة الإسرائيلية «بات شيفع» هذه العملية التى اشتهرت باسم عملية إيلات وكان البحيرى واحدا من 15 جنديًًا من جنود صاعقة البحرية أو الضفادع البشرية الذين تم تدريبهم لخوض العملية واستمر تدريبهم لمدة شهر دون أن يعرف هو أو أحد من زملائه أى معلومات عن المهمة التى هم مقبلون عليها، وبعد انتهاء فترة التدريب لم يصبه هو وبعض زملائه حظ الاختيار للاشتراك فى تنفيذ العملية ليس لضعف إمكانيات ولكن لاعتبارات تتعلق بطبيعة المهمة، والدليل أنه تم تكريم كل من شارك حتى بالتدريب فى هذه المهمة البطولية.. وفى الحوار تفاصيل أخرى وروايات عن بطولات وملاحم للبحيرى وزملائه الأبطال لا تكفى هذه المساحة لإعطائه أو إعطائهم حقهم على ما قدموه للوطن ولنا. وأترك شرف إيراد تفاصيل هذه البطولات للزميل ياسر لينشرها ويضمها وسامًا فى أرشيفه الصحفى ، لكن لا ينبغى أن أنتهى دون أن أضم صوتى لصوت والده البطل محمود البحيرى وأطالب الدولة بتكريمه وتكريم الآلاف من أبطال حرب أكتوبر الأحياء - أمد الله فى أعمارهم - بتنفيذ هذا الاقتراح البسيط الذى اقترحه الأخير وهو إقامة احتفال فى كل محافظة من المحافظات التى ينتمى إليها أبطال النصر ويتم فيه دعوتهم وتسجيل أسمائهم وأدوارهم فى كتيب (تذكارى) وهو لن يتكلف كثيرًا من النقود، ولو أنهم هم يستحقون هذا التكريم وأكثر منه بكثير جدا وأخيرا نذكِّر لمن يهمه الأمر أن اسم البطل : محمود السيد سليمان البحيرى الذى التحق بالخدمة العسكرية عام 65 وخدم فى أسلحة الصاعقة البحرية واستمر فى الخدمة تسع سنوات من عمره المديد زكاة وفداء لمصر.