تحتفي الأوساط الفنية اليوم الجمعة، بذكرى رحيل الفنان محمود المليجي، أحد أعمدة الفن العربي والمصري، الذي أثرى الساحة الفنية بأعمال لا تنسى، وترك بصمة مميزة في السينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، جعلته من رموز الفن الخالدين في الذاكرة الجماعية للجمهور. بيئته الشعبية أثرت في تكوينه الفني في حي المغربلين بالقاهرة ولد محمود المليجي في 22 ديسمبر 1910م، ونشأ في بيئة شعبية أثرت في تكوينه الفني، فعشق التمثيل منذ الصغر، وبدأ مشواره من خلال الفرق المسرحية في المدارس، قبل أن ينتقل إلى العمل في المسرح الاحترافي. انطلقت بداياته الفنية من خلال التحاقه بفرقة فاطمة رشدي، حيث عمل معها ككومبارس صامت، وتعلم منها أصول التمثيل المسرحي، ثم التحق بعد ذلك بفرقة رمسيس التي أسسها الفنان يوسف وهبي، وبدأ في تجسيد أدوار صغيرة تطورت تدريجيًا بعد ذلك. عُرف محمود المليجي بأداء أدوار الشر باحترافية شديدة، لكنه لم يكن محصورًا فيها فقط، بل أبدع في تقديم أدوار الخير، والآباء، ورجال القانون. حين يصبح الشر فنًا راقيًا حصرت أدوار محمود المليجي في أدوار الشر رغم قدراته الفنية الواسعة، هو من أبرز مفارقات مسيرته، فعلى الرغم أنه كان ممثلًا بارعًا في تجسيد مختلف الانفعالات والطبقات النفسية، إلا أن هناك عدة أسباب جعلت أدوار الشر تطغى على مسيرته، لعب دور "رجل العصابة" في عدد من الأفلام، وحقق نجاحًا لافتًا، هذا النجاح المبكر جعل المنتجين والمخرجين يأمنون له في هذا النوع من الأدوار ويكررونه فيه. امتلك محمود المليجي ملامح وجه قادرة على التعبير عن القسوة والدهاء، مع عينين قادرتين على بث التوتر والرعب، وهو ما جعله مرشحًا مثاليًا لشخصيات الأشرار، حتى حين كان صامتًا في المشهد، كانت ملامحه تحكي الكثير، ما جعله يحكي بالعيون، كما قال عنه يوسف شاهين. كانت السينما في فترتي الأربعينيات والخمسينيات تعتمد على تقسيم الشخصيات إلى نمطية: "البطل، البطلة، الشرير"، وكان محمود المليجي هو الشرير "النموذجي" الذي تحتاجه معظم هذه الأفلام، إلى حد أنه أصبح عنصرًا أساسياً في الميلودراما المصرية، وبالرغم من التكرار الظاهري، إلا أنه كان بارعًا في التنويع داخل قالب الشر: تارة الشرير المثقف، وتارة الفلاح الجشع، ورجل العصابة المتوحش، وأحيانًا التاجر، أو الموظف الفاسد، أو الأب القاسي، هذا ما جعله يتفوق على غيره من الممثلين في أداء الشر، لأنه أضفى عليه إنسانية معقدة وليس مجرد "كارتون" خبيث. قدم محمود المليجي أيضًا شخصيات إنسانية وعميقة بعيدًا عن الشر، منها: الفلاح محمد أبو سويلم في فيلم "الأرض"، وهو من أكثر أدواره إنسانية وملحمية، والشيخ الطيب، وأدوار الأب الرزين والحكيم، شخصية الطبيب، وشخصيات صوفية أو متأملة في أفلام أخرى. انحصار أدوار محمود المليجي في الشر كان نتيجة تفاعل بين موهبته الخاصة، ونظام الإنتاج السينمائي، وذوق الجمهور في زمنه. لكنه، رغم هذا الحصر الظاهري، استطاع أن يجعل من الشر فنًا معقدًا وإنسانيًا ومتعدد الأوجه، ليبقى أحد أعظم من جسدوا هذا النوع من الأدوار في تاريخ السينما العربية. أكثر من 500 عمل سينمائي يُعد محمود المليجي أحد أعمدة السينما المصرية الكلاسيكية، وقد شارك في ما يزيد عن 500 فيلمًا، وهو رقم يكاد يكون غير مسبوق، فقد بدأ مشواره السينمائي بدور صغير في فيلم "وداد" عام 1936 مع أم كلثوم، ثم قدم أدوارًا لافتة في أفلام مثل: "أيوب، رحلة عيون، حدوتة مصرية، العرافة، القرش، عشاق تحت العشرين، أيام العمر معدودة، وراء الشمس، ابنتي والذئب، كباريه الحياة، نساء في المدينة، عودة الابن الضال، صائد النساء، العصفور، لعنة امرأة، البنات والمرسيدس، السكرية، ملوك الشر، وكر الأشرار، برئ في المشنقة، رجال في المصيدة، عصابة الشيطان، المجانين الثلاثة، غروب وشروق، ابن الشيطان، الأرض، إسكندرية... ليه؟ وغيرها من الأفلام التي حققت شهرة واسعة. حضور طاغى على خشبة المسرح لم يكن محمود المليجي مجرد ممثل سينمائي، بل كان عاشقًا للمسرح، وقدم عددًا من المسرحيات المهمة خلال انضمامه لفرقة رمسيس، وفرق أخرى مثل فرقة فاطمة رشدي وعلي الكسار، ومن أشهر أعماله المسرحية: "قناع السعادة، زبائن جهنم، واحد مش من هنا، انتهى الدرس يا غبي، اللص الشريف، غراميات عفيفي، الزوجة آخر من يعلم" وغيرها من المسرحيات، فقد تميز أداؤه المسرحي بالقوة والجدية والاتزان، وكان يتمتع بحضور طاغٍ على خشبة المسرح. التأقلم مع الوسائط المختلفة شارك محمود المليجي في عدد من المسلسلات المهمة التي أثبتت قدرته على التأقلم مع الوسائط المختلفة، مع انتشار الدراما التليفزيونية في الستينيات، ومن أبرز أعماله التليفزيونية: على هامش السيرة "الأيام" عن كتاب طه حسين، "أحلام الفتى الطائر" مع عادل إمام، "الأفعى" من أعمال الثمانينيات، وأيضًا "مفتش المباحث، الأمل، بعد العذاب، الانتقام، المشوار الطويل، العصابة، بنك القلق، الحائرة، العنكبوت، في حاجة غلط، زينب والعرش" وغيرها من المسلسلات. عصر ازدهار الإذاعة وفي عصر ازدهار الإذاعة، قدم محمود المليجي عشرات التمثيليات والبرامج، ومنها: مسلسل "الرحلة، سنة أولى حب، أفواه وأرانب" وغيرها، وسهرة "الغرباء لا يشربون القهوة" وغيرها، وأيضًا حلقات درامية ذات طابع ديني وتاريخي، فقد تميز صوته بنبرة مميزة جعلته محبوبًا في هذا الوسيط. التعاونات الفنية البارزة تعاون محمود المليجي طوال مشواره الطويل مع كبار مخرجي وممثلي عصره، يوسف شاهين الذي كان من أكثر من آمنوا بموهبته وقدرته التمثيلية، وأسند إليه أدوارًا محورية في أفلام مثل "الأرض" و"الاختيار" و"العصفور"، كما تعاون مع الفنانين فاتن حمامة، عمر الشريف، رشدي أباظة، أمينة رزق وهدى سلطان شاركهم البطولة في عشرات الأعمال، ومع عادل إمام في مسلسل "أحلام الفتى الطائر"، وكذلك فريد شوقي وتوفيق الدقن، وشكل معهم ثلاثيًا مهمًا في أفلام متعددة. إرثه الفني ترك محمود المليجي إرثًا فنيًا لا يُقدّر بثمن، فجسد مئات الشخصيات التي تمثل أعماق النفس الإنسانية، ما بين الخير والشر، القوة والضعف، الطغيان والعطف، لم يكن مجرد ممثل، بل كان مدرسة في الأداء، و"شرير السينما المحبوب"، الذي عشق الجمهور أداءه حتى وهو في أقصى درجات القسوة على الشاشة، ستبقى أعماله تروى للأجيال القادمة قصة ممثل عظيم، نقش اسمه بحروف من ذهب في سجل الفن المصري والعربي.