أعتقد أنه لا يذكر الشعر العربى إلا يتبادر إلى الزهن مباشرة هذا الشاعر العملاق أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي المشهور بالمتنبى، فهو شاعر من أخمص قدمية حتى شعر رأسه، ويتميز شعره بالفخر الشخصى والحكمة والمدح فى الأمراء، وقد ولد أبو الطيب فى الكوفه بالعراق وعرف من صغره برجاحة العقل وشدة الذكاء، وكان سريع التعلم ممن سبقوة قوى الملاحظة واسع الأستيعاب، حتى أنه فى صباه لم يكن يسأل عن شئ ألا استشهد له بكلام العرب من النظم والنثر. وقد سمى أبو الطيب بالمتنبى لأنه أدعى النبوة فى منطقة السماوة بالكوفة، ولما ذاع أمره وفشا سره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الأخشيد، فأسره وتحفظ عليه ولم يفك أعتقاله إلا بعد أن أستتاب ورجع عن أدعاءه الكاذب. ويقع ديوان المتنبى فى أكثر من 575 صفحة من القطع الكبير، وسوف نتناوله على ثلاث حلقات، كل منها تمثل مرحلة عمرية وفنية، الأولى للبدايات، والثانية عندما ألتحق بالأمير سيف الدولة الحمدانى.. وتفرغ له مادحا ومسجلا لأنتصاراته وحياته بصفة عامة، والثالثة عندما خرج مغاضبا إلى مصر ليلحق بحاكمها كافور الأخشيدى.. والذى لم ينل منه ما كان يتوقعه، فهاجمه بهجاء لاذع، ثم وفاته مقتولا نتيجة لغرورة وأدعاءه البطولة على غير الحقيقة! فمشكلة المتنبى أنه كان شديد الأعتزار بنفسه.. ومما قاله فى هذا: أى محل أرتقى أى عظيم أتقى وكل ما قد خلق الل ه ومالم يخلق محتقر فى همتى كشعرة فى مفرقى فهو لا يحسب حساب لا أحد مهما كان قدره، ولا يطمع فى الوصول إلى منصب، لأن كل ما خلق الله أو سيخلق ليس إلا مجرد شعرة فى رأسه! ويقول إيضا فى موضوع أخر: لا بقومى شرفت بل شرفوا بى وبنفسى فخرت لا بجدودى ثم نجده فى قصيدة أخرى يقول: أنا أبن اللقاء أنا أبن السخاء أنا ابن الضراب أنا أبن الطعان أنا أبن الفيافى أنا أبن القوافى أنا أبن السروج أنا أبن الرعان يسابق سيفى منايا العباد إليهم كأنهما فى رهان وهناك إيضا الأبيات الشهيرة والتى كانت سببا فى مقتله كما سنوضح فى الحلقات التالية.. حيث يقول: سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأننى خير من تسعى به قدم أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى وأسمعت كلماتى من به صمم الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم ولم يكن المتنبى يكتف بالأدعاء فقط.. بل كان يصل تهوره إلى درجة التحدى.. وها هو يقول لأحد لا ئميه على أدعاءاته: أمثلى تأخذ النكبات منه ويجزع من ملاقاة الحمام ولو برز الزمان إلى شخصا لخضب شعر مفرقه حسامى وما بلغت مشيئتها الليالى ولا سارت وفى يدها زمامى إذا أمتلأت عيون الخيل منى فويل فى التيقظ والمنامى كان ما تقدم عن أبو الطيب الإنسان المتعالى الذى يعتد بنفسه.. أما أبو الطيب الشاعر فحدث ولا حرج.. فما أكثر الابيات التى لا تملك إذاءها سوى الأندهاش على تلك القدرة والصنعة وجمال الألفاظ وجمال المعانى، أقرأ معى تلك الأبيات: أرق على أرق ومثلى يأرق وجوى يزيد وعبره تترقرق جهد الصبابه أن تكون كما أرى عين مسهده وقلب يخفق جربت من نار الهوى ما تنطفى نار الغضا وتكل عما يحرق وعزلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق وعذرتهم وعرفت ذنبى أننى عيرتهم فلقيت منهم مالقوا فهو يصف نفسه عندما يهوى: النوم يخاصمه وشوقة يزيد ودمعه يسيل، وعينه لا تغمض وقلبه يخفق، ونار الهوى أشد من نار شجر الغضا الذى يبقى جمره زمنا طويلا لا ينطفئ وقد كان يلوم أهل العشق، والآن وبعد أن جرب فأنه يتساءل: كيف يموت من لا يجرب الحب وينكوى بنارالعشق؟! ثم أقرأ هذه الصورة الجميلة عن كتمان الحب والذى لم يستوعبه جسده فزاد وفاض وتسبب فى علته! كتمت حبك حتى منك تكرمة ثم أستوى فيه إسرارى وإعلانى كأنه زاد حتى فاض عن جسدى فصار سقمى به فى جسم كتمانى أو عندما قبل حبيته..وجد ماء رضا بها يحيى الميت.. بينما هى تمسح دموعها على خدها الوردى بأطراف أناملها الناعمة: قبلتها ودموعى فرج أدمعها وقبلتنى على خوف فما لفم قد ذقت ماء حياة من مقبلها لو صاب تربا لأحيا سالف الأمم ترنوا إلى بعين الظبى مجهشة وتمسح الطل فوق الورد بالعنم أما المدح فلا أعتقد أن أحد استطاع أن يجارية فى ذلك: لو كنت بحرا لم يكن لك ساحل أو كنت غيثا ضاق عنك اللوحُ وخشيت منك على البلاد وأهلها ما كان أنذر قوم نوحٍ نوحُ أنت كالطوفان الذى أنذر نوح به قومة،لأنك لو بحر فليس لك ساحل، ولو مطر لا ضاق بك الجو! وفى قصيدة أخرى يمدح بها أحد الأمراء يصف قواته بالأسد التى فرائسها الأسود، أما الأمير فهو كالبدر والبحر والشمس: أسد فرائسها الأسود يقودها أسد تصير له الأسود ثعالبا كالبدر من حيث ألتفت رأيته يهدى إلى يمينك نورا ثاقبا كالبحر يقذف للغريب جواهرا جودا ويبعث للبعيد سحائبا كالشمس فى كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا