عندما تحاول الذاكرة الأدبية فى ثقافتنا العربية أن تلقى ضوءا كثيفاً على رموزها البارزين من بين مئات الشعراء فى شتى الحقب الزمنية إذا ما أرادت أن تقدم للثقافات الأخرى ما لديها من كنوز معرفية ساطعة ؟ فإن صوت المتنبى يبرز واضحاً جلياً من بين هذه الأصوات والنبرات والآفاق الشعرية بشكل يميزه عن كثير من الشعراء. بل إن المتنبى هو أحد أهم الشعراء العرب الذين شغلوا العقول والأفئدة ولما لا ؟ وقد التفت حوله العديد من النقاد والباحثين والدارسين وطوفوا فى سعادة ومتعة وسعة صدر ورحابة نفس فى معظم ما كتب فى آفاقه الشاسعة الخصبة التى لا تزال تكشف عن ملامح جديدة وقسمات تستحق التأمل والمتابعة بل التفكر فى دقائقها . ولا شك فى أن هذه الدراسات عدا التى تكرر أو تعيد ما طرحه الآخرون تحاول أن تكون شراعاً جديداً فى نهر المتنبى يقود المتلقى فى نهاية الرحلة إلى كشف مختلف وإطلالة أخرى . ومن ثم فإننى سألقى إطلاقة سريعة على أحد هذه المؤلفات الحديثة التى حلقت فى سماء المتنبى ، وحاولت الاقتراب من ملمح جديد لم يحظ بوقفة جادة ولم ينل حقه من الدراسة أما الكتاب فهو : ( آثار صوفية فى شعر المتنبى ) لمؤلفه الأستاذ الدكتور / محمد أبو المجد على البسيونى 0 أستاذ الأدب العربى القديم بكلية دار العلوم جامعة الفيوم ووكيل الكلية للدراسات العليا والبحث العلمى والكتاب صدر عن مكتبة الآداب بالقاهرة . يستهل المؤلف حديثه قائلاً : ( لم يكن المتنبى صوفياً ، وليس فيما يعرف عنه من الصوفية فى شىء ؛ لكن الأثر الصوفى فى شعره وهو ما يفترضه هذا البحث لا يقل بحال عن الآثار الأخرى التى التفت إليها الدارسون كالتشيع والفكر الفلسفى وأولوها جل اهتمامهم 0 وهذا الأثر لا يقف فيما يفترضه البحث كذلك عند المضمون فحسب ؛ وإنما يمتد ليشمل فيما يشمل كل جوانب التجربة الإبداعية لديه ) . وبعد أن يقدم المؤلف بعض الإشارات التى أوردها بعض النقاد القدامى والمحدثين والتى كانت قليلة وغير واضحة المعالم برغم أهميتها يلقى المؤلف إطلالة سريعة على نشأة وحياة المتنبى وذلك ليتلمس أثر هذه النشأة وتلك الحياة فى تلك اللمحات الصوفية التى بدت واضحة فى شعره . ثم يأتى حديث المؤلف عن بعض الأفكار ، والرؤيى والمضامين الصوفية فى شعره وأهمها : أ العشق : يذكر د/ أبو المجد أن المتنبى لم يعرف بأنه العاشق الذى يتوله بمحبوبته ويتغزل بها ، بل كان يسمو بحبه ومشاعره إلى آفاق رقيقة هادئة متسامحة هى أقرب إلى واحة العشق الصوفى الذى نراه عند رابعة وغيرها ونتأمل من هذا قوله : أروح وقد ختمت على فؤادى بحبك أن يحل به سواكا وقوله : كتمت حبك حتى منك تكرمة ثم استوى فيك إسرارى وإعلانى كأنه زاد حتى فاض من جسدى فصار سقيم به فى جسم كتمانى " بل بلغ به كما بلغ بأهل الوجد حل الجنون ، فغيب سحين حل بقلبه العقل عنه " كما يذكر المؤلف مستشهداً بالعديد من الأبيات حول هذا الملمح. ويشير د/ أبو المجد إلى أن المتأمل لشعر المتنبى سيلمح لغة رقيقة ترسم روحاً من مشاعر الحب الهادى وهذه اللغة تبرز فى كثير من موضوعات شعره على الرغم مما عرف عهن المتنبى من تصنعه للنسيب . ب الزهد : ويرصد المؤلف لمحة أخرى من لمحلات التصوف فى شعر المتنبى يستهلها بقوله : ( الزهد هو الأساس الذى قامت عليه فيما قامت حركة التصوف الإسلامى قبل اتصالها بالفلسفات الوافدة 00 وعجيب أمر المتنبى الذى شغل الدنيا وشغلته كما شغلها حين يبدو متأثراً بهؤلاء الصوفية زاهداً ، فيصحب على ما وصل إليه من الشهرة الفقراء 00 ويصرف قلبه عن التعلق بالدنيا وما فيها من اللذائذ والنعيم 00 ) فيقول : بقلبى وإن لم أرق منها ملالة وبى من غوانيها وإن وصلت صد ويمضى المؤلف فى معايشة تلك الآثار الصوفية ، فيذكر لنا أثراً آخر وهو ( الفتوة ) وهى " اسم جامع لما ينبغى أن يتحلى به الإنسان من الأخلاق فى رحلة معراجه نحو الكمال ، تحمل سمع ما فيها من ثوابت لا يختلف عليها أحد فى كل عصر سمات خاصة تطبعها بطابعه 00 حسبما ذكر المؤلف نقلاً عن الدكتور / عمر الدسوقى ثم يطرح المؤلف بعض النماذج التى يتبدى فيها هذا الأثر الصوفى 0 وذلك فى قوله فضلاً عن أبيات أخر : وللنفس أخلاق تدل على الفتى أكان سخاء ما أتى أم تساخيا وفى حديثه عن آثار أخرى فى الرؤية والمضمون الشعرى يقول المؤلف : ( تتغلل الرؤية الصوفية فى شعر المتنبى ، فتميزه حين يصدر عنها ويصطبغ على نحو غير معهود بها عما عداه ، وشكل معجما خاصاً يستمد أكثر ما يستمد من مصطلحات القوم وألفاظهم ، تقارب على نحو ملحوظ بين لغته ولغتهم ، وطريقة تعبيره وأسلوبه وطرائق تعبيرهم وأسياليبهم 000 ) . ثم يذكر المؤرف الجوانب الأخرى التى لم يشر إليها من قبل منها: ( الفناء ) وبعد إيراده لبعض النماذج يشير إلى أن هذا المضمون الذى عرف عن الصوفية أى الفناء قد سلك فيه المتنبى مسلكاً فنياً يقوم على الخيال أو التصوير الذى يقوم على المبالغة، ويقوم المؤلف د/ أبو المجد بعض النماذج التى يستشهد بها على هذا الملمح من شعر المتنبى مثل قوله فى مدح أبى الفضل الكوفى: يا أيها الملك المصفى جوهرا من ذات ذى الملكوت أسمى من سما نور تظاهر فيك لاهوتية فتكاد تعلم علم ما لن يعلما ثم يقول المؤلف : ( وإذا كان مقام الفناء وما تجلى عنه من الاتجاه به نحو التوحد والحلول قد شهد مثل هذا الاحتفال لديه، فإن مقامات أخرى عديدة قد تركت صداها بصورة ملحوظة فى شعره، ومن هذه المقامات الرضا بقضاء الله حلوه ومره والصبر والاستغفار والتواضع والتوكل والإحسان والحضور والشهود والمعاينة000) 0 ومن ذلك قوله : وإنى رأيت الضر أحسن منظرا وأهون من مرأى صغير به كبر ومن تلك الآثار التى تذكرنا بعالم الصوفية أيضاً (الأفراط والغلو) وتبدو سماته عند المتنبى فى تفرد الممدوح ووحدانيته نعوذ بالله من ذلك فمن لك قوله فى مدح سيف الدولة : إنى دعوتك للنوائب دعوة لم يدع سامعها إلى أكفائه ثم هو أى المتنبى لا يرى فى الممدوح إلا نموذجاً للخيرية المطلقة كما يذكر المؤلف فهو بذا يقلد الصوفية فى تصورهم لشيوخهم وسادتهم وأئمتهم مما كان مأخذا عليه لا سيما عندما يشتط حتى يصل بشعره إلى درجة ينكرها الدين ويأباها العقل0 ويطرح المؤلف العديد من النماذج حول تلك الخيرية المطلقة التى رآها هو أى المتنبى ماثلة فى الممدوح دون من سواه 0 ولم يكتف المتنبى بذلك من صفات الممدوحين كما يشير د/أبو المدد بل يرى أنهم من أهل الأعاجيب والكرامات ، تلك الصورة البارزة أيضاً فى كتب الصوفية وهو ملمح آخر يضاف إلى ما سبق من ملامح تأثر المتنبى بهم 0 ويصل المتنبى فى تصور ممدوحه إلى دائرة الوهم والمحال وقد رصد عليه النقاد منذ القدم شططه وإغراقه وغلوه وإفراطه دون أن يربط أحد بين هذا الشطط والإغراق وبين الشطح الصوفى ، لأنهم لا يلتفتوا أو بالأحرى كثير منهم إلى علاقته بالتصوف وما تركت تلك العلاقة فى شعره من آثار حسبما ذكر المؤلف0 ومن أمثلة ذلك فى شعر المتنبى : تسر بالمال بعض الملل تملكه إن البلاد وإن العالمين لكا وينتقل المؤلف إلى منحى آخر يتصل بهذا الجانب وهو جنوح المتنبى مثل الصوفية نحو الرمز بأشكاله المختلفة الأسلوبى منه والموضوعى ويتدرج الخيال لديه من البساطة حتى يصل إلى أقصى درجات التعقيد ثم يتحدث المؤلف أيضاً عن سمت بارز وهو: (الإغراب اللغوى) تلك النزعة الجلية لدى الصوفية ويقدم لنا المؤلف إشارة مهمة فى هذا الصدد قد استلهمها عبر رحلته أو رحلاته فى آفاق هذا الشاعر حيث يذكر أن ثمة تفسيرا شائعاً فى كثير من الأذهان لهذا الإغراب مفاده : أن المتنبى لجأ مراراً لهذا السمت إثباتاً لمعرفته الدقيقة باللغة لينال إعجاب العلماء ، وإثباتاً لتميزه فى الوقت ذاته وعلى الرغم من أن نفسه إى المؤلف وحسبما ذكر قد استجابت مدة زمنية لهذا التفسير الساذج البسيط حتى تكشفت له رؤية أخرى أكثر إقناعاً وهى أن هذا السمت وهو الإغراب اللغوى يعد انعكاساً أو أثراً من آثار الصوفية فى شعر المتنبى وهذه الوجهة يؤيدها العديد من النماذج فى شعره ومن بين النماذج المتعددة اكتفى بنموذج يبتدى فيه الإكثار من الضمير وذلك فى قوله : وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة سبوح لها منها عليها شواهد وفى ربوع هذا الكتاب يقف بنا المؤلف عند لمحة أحسبها ذات قيمة ومكانة تسللت إلى مرآة وهو يطوف فى عالم هذا الشاعر الذى شغل الدنيا وشغلت به العقول والأفئدة حيث يقول أثناء تأمله لأثر من آثار التصوف فى شعر المتنبى : ( أقرأ هذا الشعر فى ديوان المتنبى وهو منبث فى ثناياه فأشعر أننى بين يدى شاعر من شعراء الزهد الكبار كأبى العتاهية وأبى نواس وأنسى حين أقرؤه هممه البعيدة التى يقصر الزمان عنها وطموحه الذى ما انفك ملازما له طول الحياة ، ويتبدى لى الرجل شيخا ملتفا فى عباءة من صوف تغطى روحه ونفسه لا جسد فحسب منزوياً فى ركن ناء من أركان الدنيا ، مكتفياً فيها كأرباب التصوف بالكفاف00)0 إلا أننى واستميح المؤلف عذراً مكنت أود أن تطول وقفته عند هذا الملمح وهو جدير بهذا فعندما نصل إلى (مشهد) يلفت انتباهنا فلماذا نكتفى بنظرات عابرة ، وكان باستطاعتنا أن نسافر فى آفاقه بالتحلل والتأمل النفسى والفنى ، والاستلهام لمزيد من الأسرار حول هذا الملمح لا سيماأن المؤلف هو من هو قدراً ومكانة وأخلاقاً قد وصل بنفسه إلى هذا المشهد ، وذاك الشاطئ الثر فى رأيى 0 وبعد ، فأرجو أن يكون القارئ قد سعد بهذه الإطلالة السريعة كما سعدت كاتبة هذه السطور ، مع الاعتراف بأن هذه الإطلالة المتواضعة قدر جهدى لم تف هذه الدراسة الجادة حقها 0