عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، صدر للناقد الدكتور محمد آيت لعميم مصنف تحليلي تحت عنوان: المتنبي (الروح القلقة والترحال الأبدي). والكتاب من القطع الكبير وممتد فوق ما يزيد عن 380 صفحة تقدم بكيفية نسقية ومنظمة دراسة تحليلية حول الشاعر المتنبي. وتصوغ اللحظات المفصلية في هذه الدراسة بلغة أنيقة ليست غريبة عما هو معهود في كتابات محمد أيت لعميم. يبدأ الكتاب بإهداء من الكاتب إلي والده ووالدته وزوجته وينتهي بمقالة: وأخيرا، فإذا كانت هذه المناهج التي قاربناها وأسفرت كلها علي تصورات مختلفة حول المتنبي وشعره، فهي تعكس بالأساس طبيعة الخطاب النقدي الحديث حول الأدب القديم، وتعكس أيضا الحوار النقدي الذي لازال يفرض تقاليده في النقد العربي الحديث.. إذا كان بحثنا قد ركز علي فحص تمثلات النقاد حول المتنبي، فإن مجال البحث في الظاهرة المتنبئية لا زال مفتوحا خصوصا وإن هناك مجالا أعتقد أنه لم يدرس بما فيه الكفاية وهو تلقي المتنبي من قبل الشعراء أنفسهم سواء كانوا شعراء يحافظون علي عمود الشعر، أو شعراء تفعيلة، أو شعراء قصيدة النثر، فكل هذه التوجهات تعاملت مع المتنبي كقيمة شعرية لازالت لم تستنفد كل عطائها. يبقي أن هذا الكتاب جدير بالقراءة والاحتفاء، طالما أنه صيغ برموش العين وكأنه نمنمة حناء في ساحة جامع الفنا الأفضل من جميع الجامعات. وعبر سطور الكتاب، سيتعرف القارئ علي أسئلة النقد من خلال تجربة الشاعر الكبير شيخ شعراء العربية أبو الطيب المتنبي، باعتباره هو أقوي صوت شعري أنجبته اللغة العربية، ملأ الدنيا، وفتن الشعراء والنقاد في حياته وبعد وفاته حتي اليوم. وقد صور لنا الناقد المغربي الدكتور محمد آيت لعميم، حياة أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي علي قصة رائعة من قصص العبقرية، ومشاهد حافلة بالمغامرات والسمو نحو الطموح والمجد، جعل كل من يقرأه يخيل له أن العكس هو الحاصل، وكلما أعادت قراءته تكتشف شيئا جديدا، علي غرار الأعمال الخالدة والمتميزة في نوعها _ كما يقول آيت لعميم- نصه الشعري يصمد أمام القراءة ويتجدد مع مرور الزمن. وهذه ميزة لم تنعم بها إلا نصوص قليلة. لم يكن أبو طيب المتنبي في شتي جولاته ومغامراته (تاجرا من تجار الأدب) كما يظن بعض الدارسين للأدب، لأنهم جهلوا نفسية المتنبي و حياته، فرموه بالجنون حين التجأ إلي أمير بعد أن كان يطلب لنفسه الإمارة. فهضم الموروث الشعري السابق عليه، واستلهمه بطريقته الخاصة، مخلفا بصمته الشخصية، تمثل الفكر الفلسفي الإغريقي والسياسة، ونفذ إلي أعماق النفس البشرية، وانغمس فيها بعمق، فصهر كل هذه الأشياء، وأخرجها جديدة موقعة باسمه. أخذ أبو طيب المتنبي يصعد حملاته القوية علي خصومه ومنافسيه، فلم يبق أمل في الوئام، فخرج من حلب إلي دمشق حيث زين له أحد أتباع كافور أن يرحل إليه بمصر، فيمم وجهه شطر مصر قاصدا قصر بني الإخشيد،وأدت صلات الصداقة القديمة الباقية الشاعر عن أن يرمي الأمير بداهية من لسانه وآبدة من شعره،لكن الكاتب محمد آيت لعميم له رؤية أخري غر تلك، حينما يذهب إلي أن المتنبي أعاد للشعر أمجاده، في زمن كسدت فيه سوقه لحساب الكتاب بضم الكاف،ولم يكن يوجه شعره - كما يعتقد- إلي ممدوحيه، بقدر ما كان يوجهه للأوساط الثقافية التي كانت منشغلة بالشعر والفكر واللغة والفلسفة، وقد كانت هذه الأوساط الثقافية منشغلة بشعر المتنبي دون غيره، وحير هذا الاهتمام البالغ بشعره جل النقاد قديما وحديثا. وحسب محمد آيت لعميم فإن هذا الكتاب يحاول، أن يجيب عن أسرار الاهتمام بشعر المتنبي، ويجلي السياقات التي أعيدت فيها قراءاته من لدن النقد المعاصر بمختلف توجهاته ومناهجه، بغية الوصول إلي أقرب طريق لفهم هذا الاهتمام الكبير بشعر المتنبي، ألا وهو الإجابة عما يجده القراء المتتابعون في الزمن في هذا الشعر، وما الذي يلبيه هذا الشعر بالنسبة لقرائه،إذ سر الاهتمام لا يبحث عنه في داخل النصوص، بل يستقصي من خلال ذهنيات القراء، وأذواقهم، وطرق تلقيهم للنصوص. أعتقد أن الاشتغال علي شاعر باذخ وعملاق مثل أبو الطيب المتنبي، يتطلب كثيرا من الحذر والحيطة، وأيضا كثيرا من الجرأة، لأن المتنبي سرعان ما يبدد غبار الخطاب النقدي حوله، ويطالبه بالمزيد من الملاحقة، غير أن ما هو أكيد أن شعر المتنبي يملآ الخيال، ويترك أثرا في قارئه،فالعمل الأدبي العظيم، رغم ما تخلله من نقاط ضعف، فإنه يقاس بمدي الأثر الذي يتركه فينا حينما ننهي قراءته. الكتاب: المتنبي.. الروح القلقة والترحال الأبدي المؤلف: محمد آيت لعميم الناشر: المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش