ولما كانت النكسة عام 1967 سافرت أم كلثوم إلى باريس لتغنى على مسرح أوليمبيا معلنة رفض الهزيمة ودعت السيدات إلى المجتمع الوطنى واجتمعت بالصاغة لتحثهم على التبرع بالذهب من أجل المجهود الحربى. وطافت بمحافظات مصر لتغنى من أجل المجهود الحربى وكانت هى المرة الأولى التى تهدى فيها مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة مفتاحها لإنسان هى أم كلثوم. وكما تنافست محافظات مصر فى تكريم أم كلثوم تنافست العواصم العربية التى طافتها لتغنى وتجمع التبرعات للمجهود الحربى منها فى السودان صلى الناس على المسرح أثناء غنائها شكرا لله. وأطلق اسمها على مدرسة. وفى الكويت رشوا عليها العطر واستقبلها قصر الأمير، كما استقبلها الجامعة وقدمت الإذاعة اليابانية برنامجا عنها بمناسبة هذه الزيارة وكانت هى المرة الأولى التى تقدم فيها الإذاعة اليابانية برنامجا عن فنان عربى. وفى لبنان تم منحها وسام الاستحقاق. ومنحتها باكستان وسام «نجمة الامتياز» تقديرا لغنائها قصيدة حديث الروح «للشاعر الباكستانى محمد إقبال. وفى المغرب قدم لها أهل مدينة فاس شمعة خضراء طولها متر مرصعة بالذهب واستدعت سلطان الأمن فى المطار جنود الجيش لترافق أم كلثوم فى المسافة بين الطائرة وصالة المطار والسيارة التى تنتظرها خارج المطار.. وفى مراكش وقفت فى خيمة الملك وحشدوالها 1500 راقص وراقصة ليستقبلوها بإحدى رقصاتهم الشعبية. وفى تونس أحاطوها فى المسرح ببستان من زهور القرنفل بلغ عدد زهوره 280 ألف زهرة ووزعوا فى حفلها الأول مناديل طبعت عليها صورها ومنحتها تونس وسام الجمهورية الذى لا يمنح إلا لرؤساء الدول وعزفوا السلام الجمهورى لها وأطلقوا اسمها على أحد شوارع العاصمة. وفى باريس طبعوا لها صورة بالحجم الطبيعى بالأنوار النيون وفى ديسمبر 1971 غنت فى أبو ظبى لتضيف 24 ألف جنيه استرلينى إلى عطائها للمجهود الحربى. ولما فازت أم كلثوم عام 1968 بجائزة الدولة التقديرية، تبرعت بقيمتها المادية (2500 جنيه) لصالح صندوق معاشات الفنانين. لم تتمثل قيمة أم كلثوم فى صوتها العظيم فقط إنما فى وطنيتها ومصريتها وعروبتها لتضرب مثلا لأى مبدع بأن الفن وسيلة للتعبير عن الأحاسيس القومية والوطنية. أما صوت أم كلثوم فكان نادرا ومن الصعب أن يتكرر فى تاريخ الغناء العربى ففيه القوة والعاطفة والإحساس. ويتمتع بمساحة واسعة (أو كتافين) يعنى 14 درجة موسيقية كلها سليمة لاعيوب فيها وهو قادر على التمرد على ذل الميكرفون مما يفسر لماذا ألقت أم كلثوم الميكرفون الذى وضعوه أمامها عام 1932 مع أن مكبر الصوت كان فى ذلك التاريخ قد أصبح من العلامات البارزة فى الحفلات الغنائية منذ نهاية القرن التاسع عشر، والقفلات اللحنية فى صوت أم كلثوم طبيعية وسهلة. والعُرب أى الذبذبات الصوتية تستخدمها بقدر مناسب وكم من مطربات جيلها قد أسأن فى استخدامها ليتحول الأداء إلى شكل ساخر كاريكاتيرى. أضافت مصر عام 1972 لقب فنانة الشعب.. على ألقاب ثومة والتى منها «البلبلة» «قاعدة الصواريخ عابرة القارات» «جامعة الفنون والأداب» «السحاب» «الست» «ست الكل» «كوكب الشرق». أما جمهور حفلاتها فكان يحلو له أن يهتف لها ب «عظمه على عظمه ياست» مطربات العرب من العصر الجاهلى الشهيرات كثر وما خفى كان أكثر، وفى المراحل الأولى كان الغناء وسيله لتسلية علية القوم والمغنيات معظمهن من الجوارى اللائى يتم وضعمن فى المجالس من قبيل الزنية والترطيب «وتطرية القعدة» وفى عصور الظلمة كان الناس لا يحترمون المغنيات وكانوا يعاقبوهن إذا تم ضبطهن متلبسات بممارسة الغناء فى أماكن عامة. وفى القرن العشرين أحذت كل الفنون حقها الواجب من الاحترام فلما غنت أم كلثوم «قف يا زمانى» وقف الزمان لبيرصد ما تقدمه من فن راقٍ محترم. كل عمل فيه تحفة فنية تليق بالتحليل فى مدرجات الجامعات وأكاديميات الفنون كما تطرب الصغير والكبير لأجيال كثيرة. وصحيح أن القرن العشرين قد ظهرت فيه أصوات حلوة كثيرة لكن لا يوجد بينها ما يمكن أن تجبرك على ألا تستغنى عنها. مطربات العربية بالمئات وربما بالآلاف أعظمهن أم كلثوم. فهى أعظم مطربة منذ العصر الجاهلى حتى عصر أم كلثوم. فنا وسلوكا وطنيا واجتماعيا.