أم كلثوم هذه الشخصية الفذة التي قلما يجود الزمان بمثلها في عالم الغناء والطرب، والتي كانت تتفاني في أداء عملها الفني وتعطي كل ما عندها للمستمع كانت تخشي الجمهور، وتعمل له ألف حساب عندما تواجهه علي خشبة المسرح، فكانت في حفلاتها الشهرية التي ينتظرها الجميع في الخميس الأول من كل شهر تظهر علي المسرح بمنديلها الحريري في يدها بلون فستانها مما جعل بعض عشاق فنها يتساءلون هل وظيفة هذا المنديل أنه يمتص انفعال يدها وهي تغني ويسيطر علي حركاتها أم أن له وظيفة أخري مختلفة؟ ت قول أم كلثوم عن وظيفة هذا المنديل عندما أواجه جمهوري، ينتابني نوع من الاضطراب وكأني تلميذة مبتدئة أواجه أول امتحان لي! واضطرابي هذا بصراحة يظهر في صورة عرق ينضح من يدي، والمنديل بببساطة لأجفف به عرق اضطرابي هكذا كانت أم كلثوم ذلك النبع الصافي من الفن الرقيق العذب، والتي تمرست علي الغناء أكثر من نصف قرن تخشي مواجهة المستمع لدرجة الاضطراب ولدرجة العرق، إنها الحساسية الفنية المفرطة التي تميزت بها سيدة الغناء مما فرض احترامها علي الناس، فواجهوها بسلوك محترم، فالمستمع عند أم كلثوم له مقامه، تستجيب لمطالبه في الحفل إن طلب أن تعيد مقطعاً من أغنيتها أو مزيداً في التراديد، كما أنها تقرأ بعناية نقده لها في خطاباته الخاصة إليها فهو بالنسبة لها بمثابة الناقد المحايد، ولا شيء يحول بينها وبينه حتي المرض تذكر أم كلثوم أنه في يوم الحفلة الشهرية خلال موسم 1957 أصيبت بزكام ومع ذلك صعب عليها إلغاء الحفل، وفي الموعد أخذت تمضي إلي المسرح ولا تدري ماذا تفعل، وعندما وقفت علي المسرح وانفتح الستار زال عنها الزكام وانطلقت تغني وقدمت في تلك الحفلة أغينة جديدة من كلمات »أحمد رامي« ولحن »السنباطي« اسمها »غيرة« وأنها ليلتها انتابتها كحة عدة مرات، وقال الناس بدهشة »الله.. أم كلثوم بتكح«، لقد كانت أم كلثوم في أغانيها تتأمل معاني الكلمات، وتنفعل بها كأنها أحداث مرت في حياتها أو عاصرتها. وهكذا كانت أم كلثوم ذلك النغم الجميل الذي اخترق الآفاق ونشر أنبل القيم وأغلاها وهو الحب، وكلما انقضت الأيام ثبت أن صوتها خالد خلود الزمن، وأن أغانيها مازالت قبلة الشباب والشيوخ معاً فقال »نجيب الريحاني« عن أم كلثوم: »إنها فنانة يتجمع فيها الذكاء النادر والشخصية الجبارة! وهي فنانة تؤمن عن يقين بأنه لابد لها أن تفوز دائماً وأن تتفوق«، وقال عنها »عباس العقاد«: »إنها المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء فن رءوس وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه فحسب، فهي تفهم ما تعنيه، وتشعر بما تغنيه، وتعطيه من عندها نصيباً وافياً إلي جانب نصيب المؤلف ونصيب الملحن«. وقالت عنها مجلة »تايم« الأمريكية: »إن أسطورة أم كلثوم تكبر وتستمر لأنها أشهر وأقوي شخصية فنية في الوطن العربي.. وأن في الشرق الأوسط شيئين لا يتغيران هما: أم كلثوم وأهرام الجيزة!«. لقد ارتبطت أم كلثوم بمصر والعروبة، برابطة روحية خاصة، وكانت وفية لأهلها وأبناء وطنها فعندما توفي سعد زغلول عام 1927 رفضت أن تغني في حفل عام قبل مرور أربعين يوماً وكانت أيامها تحيي حفلة مساء كل يوم جمعة أسبوعياً، وبعد مرور الأربعين كتب لها »أحمد رامي« نشيد سعد زغلول ولحنه القصبجي وغنته في أول حفل عادت به إلي جمهورها بعد الحداد، وعندما قامت حرب 1948 في فلسطين طلبت السفر إلي هناك لتغني للجنود علي خطوط القتال، وعندما وقعت نكسة 1967 أعلنت أم كلثوم اعتزالها الغناء، ثم عدلت عن ذلك القرار تحت إلحاح الكثيرين وعادت من أجل أن تضع صوتها في خدمة المعركة ودعم المجهود الحربي وبعد انتصارات أكتوبر 1973 وكانت الشيخوخة قد بدأت تزحف عليها حاولت حصر جهودها في التبرع بالأموال لمشروع يحمل اسمها وهو »مشروع أم كلثوم للخير« لخدمة جرحي الحرب ولكنه لم ير النور. وهكذا خدمت أم كلثوم وطنها ووقفت بجانبه خلال المحن، وقدمت له العون من خلال فنها، وكان عطاؤها بلا حدود حتي توفاها الله ورحلت عن دنيانا في الخامس من فبراير 1975 بعد أن أعطت لمصر والعالم العربي فناً رفيعاً راقياً، وكان حب الناس لها من حب الوطن، ولايزال صوتها العبقري يملأ الأسماع بأحلي ما صاغته عقول شعرائنا من أغنيات تحمل أسمي المعاني وأجمل الأفكار لتصوغها لحناً من إبداعات كبار الملحنين. د. عبدالمنعم الجميعي