إن المنعطف الفارق الذى تمر به مصرنا الحبيبة هذه الأيام والتى اختلطت فيها المواقف السياسية وتباينت يجعلنا فى حاجة ضرورية لعرض مثل هذه النماذج المثلى من المصريين المخلصين الذين يقطرون وطنية وانتماء وقبلهما تقوى الله وخشيته.. وقد كان حلما من أحلامى الصحفية أن أتحدث عن أحد هذه النماذج أو اكتبه موضوعا لمقالى يوما.. حيث بهرتنى شخصيته المزدحمة بكل عظيم السجايا وأثارت إعجابى سيرته الزاخرة بالكفاح فى أبهى صوره والتى تجلت فى كليهما كل عناصر العصامية المحمودة والمشفوعة بالذكاء الفطرى الذى لم تشوهه الأنانية المقيتة أو حب الذات.. وفى كل مرة أجد كاتبًا كبيرا تناوله ثناءً وتوقيرًا وإجلالا وخاصة رائد الصحافة الحديثة فى مصر الكاتب الصحفى مصطفى أمين.. ولا أجد تصرفا سوى إرجاء هذا المقال الذى لم تشأ الأقدار أن يظهر إلى النور، وها هو ذا صديقى وزميلى محيى عبد الغنى يقترح علىّ أن اكتب عنه.. بينما لم يدرك محيى أن هذا المقال المقترح هو حلمى المؤجل.. اليوم اكتب عن النموذج المصرى المثالى وشيخ البرلمانين المصريين الحاج سيد جلال صاحب ملحمة النضال الإسطورية والمتفردة والتى قلما تتكرر فى التاريخ الأنسانى المصرى عبر التاريخ.. واسمه بالكامل الحاج سيد جلال جيلانى مبروك العدوى وقد استمد لقبه من قريته بنى عديات مركز منفلوط بمحافظة أسيوط والتى ولد بها فى الأول من يناير 1899.. وقد توفيت والدته بعد مولده بشهور ولحق بها والده بعد خمس سنوات بينما إبنهما سيد جلال لا يزال طفلا ليكفله خاله الذى أدخله كُتّاب القرية ليحفظ القرآن الكريم كاملا وهو فى السابعة من عمره بما ينبىء بنبوغ مبكر.. وقد حمل سيد جلال قيم عائلته والتى رغم بساطتها كانت تتحلى بالفضائل والتدين الحقيقى والقناعة وحب الخير والرغبة فى العطاء واحترام الآخرين وتقديس حقوقهم وكل هذه الصفات سوف يتضح فيما بعد أنها كانت مؤهلات الحاج سيد جلال لكل ما وصل إليه كما كانت دعامات نجاحه فى حياته العملية. *** وفى الخامسة عشرة من عمره انتقل إلى القاهرة ليقيم لدى أحد أقاربه ببولاق أبو العلا الذى الحقه عاملا فى أحد المخابز حيث كان يوزع الخبز على دراجته للمحلات والمطاعم ويتجاوز هذه المرحلة إلى مراحل أخرى فى أعمال بسيطة ولكن قناعته بأنها تأتى إليه بالعيش الحلال لم يكن ينظر إلى بساطتها بأى لون من ألوان التأفف ولم يكن يدرى ما تخبئه له الأقدار من فتوحات رحبة للرزق بدأت حين غادر القاهرة متوجها إلى مدينة بورسعيد وهو لم يتم سنواته العشرين بعد.. ليعمل ساعيا فى شركة يونانية للنقل البحرى وقد كانت هذه المهنة البسيطة فاتحة خير ونقطة انطلاق نحو حياة أكثر استقرارا.. حيث استغل تعاملاته مع عملاء الشركة ومعظهم من جنسيات غربية فى أن يتقن لغات أجنبية مثل اليونانية والفرنسية والإيطالية كتابة وتحدثا كما أتاحت له هذه اللغات بعض المعاملات التجارية فى التصدير والاستيراد وقد وفقه الله ونجحت هذه المعاملات بمساعدة أصحاب الشركة من اليونايين الذين منحوه ثقتهم لأمانته وخلقه القويم.. وبعد فترة استطاع الحاج سيد جلال أن يستقبل بتجارته وتمر الأيام ليضع لبنه صرحه الاقتصادى الذى أداره بذكاء خارق جعل النجاحات تتلاحق سريعا ليفتتح فرعا لشركاته بالقاهرة. وهنا تبدأ علاقته الوثيقة بحى باب الشعرية الذى وجد فى أهله من البسطاء ضالته المنشودة حيث تجلت أعمال البر والخير حيال هؤلاء البسطاء مما أكسبه شعبية جارفة. ولن أتجاوز حين أصفه بأنه صار أخا وأبا لكل أبناء الحى.. واتسعت منشآته من المصانع وفروع شركاته التى أصبحت مرفأ لإتاحة العمل لكل أبناء الحى وغيرهم من الفقراء.. كما أنشأ فى خطوة غير مسبوقة مستشفى حكومى بالحى على نفقته الخاصة فى باب الشعرية حمل اسمه «مستشفى سيد جلال» تلبية لرغبة أهل الحى فى تخليد هذا الرجل العظيم ثم مرت الأيام ليصبح المستشفى مستشفى جامعيًا تديره كلية طب الأزهر. *** ولم تنحصر نشاطاته البناءة على مجال التجارة والتصدير والاستيراد إنما تجاوزته إلى مجال يتناسب والمرحلة السياسية بعد الثورة وهو استصلاح الأراضى والتى استطاع من خلاله خلق فرص عمل جديدة رغم أنه أصبح يمتلك مساحات كبيرة من الأراضى المزروعة ولكنه قال قولا مأثورا إن الاستصلاح هو الإضافة الحقيقية لرقعة مصر الزراعية بينما الأرض المزروعة فهى تحصيل حاصل. وتشاء الأقدر أن يحترق أحد مصانعه فى شبرا الخيمة وتأتى النيران على كل مبانى المصنع ومعداته فيصدر الحاج سيد جلال قرارا يضمن مستحقات العاملين به من مرتبات وحوافز وغيرها طوال مدة إعادة بناء المصنع من جديد. وهنا ينشر صديقه الكاتب الكبير مصطفى أمين مقالا فى عموده الأشهر «فكرة» تحت عنوان مصانع سيد جلال لا تحرقها النار عرفانا بحرص الرجل على مصائر عماله.. *** ومن المحطات الفارقة فى حياة الحاج سيد جلال أنها قد بدأت قبل ثورة يوليو حين قام بترشيح نفسه لعضوية البرلمان وبالتحديد فى عام 1934 وينجح باكتساح نائبا عن دائرة باب الشعرية ليستمر فى نيابته لهذه الدائرة خمسين عاما كاملة ليصبح عن جدارة واستحقق شيخا للبرلمانيين حتى عام 1984 فى خطوة لم يشهدها البرلمان المصرى لأحد غيره مما يدل دلالة قاطعة على أن الرجل يعتمد على قاعدة شعبية أهّلته بحق لنيل هذا الشرف غير المسبوق وقد شهدت عضويته للبرلمان تحولات سياسية واجتماعية كان هو فاعلها الأوحد ومنها وأكثرها شيوعا وتسجيلا فى التاريخ البرلمانى المصرى هو إنهاء البغاء الرسمى الذى كان يسيطر على شارع «كلوت بك» التابع لدائرته الانتخابية حيث كان يصم الدائرة بعار الدعارة والفسوق.. وهو الرجل الصعيدى الذى يرفض هذه الآفات الاجتماعية والتى تتناقض وكل الشرائع السماوية والأعراف الخلقية.. *** وإذا كان الأنبياء هم أكثر خلق الله إبتلاءً فإن للحاج سيد جلال وهو المؤمن بالحق سبحانه وتعالى له هو الآخر نصيبا وافرا من هذه الابتلاءات التى لم تضعف إيمانه يوما بل كانت وازعا لاستقرار هذا الإيمان فى ضميره وتثبيت العقيدة فى صدره.. فقد فقد بعض أبنائه وهم فى ريعان شبابهم ومنهم أبنه عز الذى أصيب بمرض خطير لقى على إثره ربه فكان الحاج سيد جلال نعم المؤمن الصابر الذى احتسب إبنه قربانا لخالقه.. وليس ذلك فحسب. وإنما أوقف له بعضا من شركاته راجيا رحمة الله وغفرانه لابنه الفقيد.. *** ولم تزل فى الحياة الثرية بكل أعمال الخير محطات كثيرة تضيق بها المساحة وإن كان إبنه البار المهندس سعد الدين سيد جلال قد ضمّنها كتابه القيم عن والده الراحل الحاج سيد جلال متناولا أوجه البر التى ازدحمت بها قائمة أعماله الخيرّة والتى مازالت روافدها لم ينقطع عطاؤها حتى بعد رحيله منذ قرابة ربع القرن عن عمر تجاوز التسعين عاما حيث لقى ربه فى 24 يناير 1987.. رحم الله الحاج سيد جلال وأسكنه فسيح جناته.