كان عليه رحمة الله رجلاً من طرازٍ فريدٍ من الرجال كانت له مهابة ويعلوه جلال ووقار وكان مؤمناً بالله لا تفوته صلاة يؤدي الفروض في مواعيدها دونما ساعة أو سماع مؤذن يؤذن للصلاة فلم تكن المساجد انتشرت هكذا انتشار وما كانت هناك مكبرات الصوت والميكروفونات وكان شأنه شأن أهل زمانه رحمه الله يتعرف الأوقات بالظل وكثيراً ما كان يبهرني بطريقة وضوءه وأظل أتأمله بكل حبٍ وشغف وهو يمسك بإبريق الفخار ليصب الماء على راحة يده ثم يرفعها لينساب الماء على رسغه ويكرر هذا مرات وأنا مستمتع جداً بهذه الحركة وأمني النفس بأن أستطيع فعلها ثم يبدأ في المضمضة والاستنشاق والاستنثار ويزيح عمامته من على رأسه وهو يمسح بيده على شيبته الجميلة ثم يرفع قدمه وهو جالس على حصيرته المصنوعة من نبات " الحلف " وكنت أتعجب كيف يستطيع جدي فعل هذه الحركة ثم ينزل قدمه اليمنى بعد أن يشبعها مسحاً وتدليكاً ويرفع اليسرى ليفعل بها ما فعل بالقدم اليمنى ثم يقوم وهو يتمتم بحمد الله وتسبيحه متجهاً للقبلة فيقيم الصلاة ويرفع يديه مكبراً ويصلي وكان دائم الدعاء بقوله " اللهم اكفنا شر دسايس الغيب وغفلات الزمان " وقد مات وهو يتوضأ ليصلي الفجر رحمة الله عليه..... آهٍ ما أجملها من أيام وما أحلاها من ذكريات وما أعظمه من جدٍ رحمه الله قد كان بسيطاً كأحسن ما تكون البساطة ورغم أنه كان في ذلك الوقت قد دخل عقده الثامن إلا أنه كان في أتم ما يكون الرجل من نشاط يصحو مبكراً بكل همةٍ ونشاط ويذهب للغيط يباشر زراعته ويمسك بالفأس ويهوي بها على الأرض كأشد ما يفعل القوي من الفتيان وقد كان لجدي حديقة صغيرة فيها بعض شجيرات التين والليمون وشجرة سدرٍ عظيمة وفيرة الثمر وكان له كرمة عنب عظيمة وكثير من أشجار النخيل وكان يصر دوماً على اصطحابي معه للغيطان حاثًّا إياي على أن أفعل ما يفعل الرجال وكأنه كان يحس بدنو الأجل ويتعجل اليوم الذي يراني فيه شاباً لدرجة انه ذات مرة أخذني لأبيت معه في " الجرن " نحرس الغلال ورغم أني كنت لا أتجاوز السادسة من العمر حينها إلا أنني كنت شغوفاً بهذا الأمر محباً له وظللت طيلة ليلتي ساهراً وهو يدعوني للنوم وكأني أقول له لا تخف فإني رجل يعتمد عليه. كانت الأيام جميلة ولم تكن المشاغل كثيرة وكانت البركة تسير في ركابهم ولكن لم يكن هذا الجمال وتلك البركة من فراغ فقد وغنما نتيجة فعالهم الطيبة وخصالهم الحميدة فقد أقروا الضيف وأعطوا ابن السبيل وأعانوا الكل وآووا اليتيم وساعدوا العائل الفقير وكسوا المعتر وهم يطبقون في هذا قول الله سبحانه وتعالى " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا " وقوله جل في علاه " وآتوا حقه يوم حصاده " فلا زلت أتذكر تماماً كيف كانوا يؤتون الزرع حقه يوم حصاده فيدعون للحصاد الأهل والأحباب والفقراء والمساكين ليشاركوهم في جمع المحصول أياً كان سواء حبوب أو ثمار فاكهةً أو خضار وكانت الفاكهة عزيزة نادرة وقتئذ وبعد الانتهاء من الحصاد يقوم بتوزيع ما جاد به المولى على كل الحضور غنيهم وفقيرهم وما في الدنيا وقتئذ غني وفقير ولا تكاد تفرق بين موسرٍ ومعسر ولا صاحب أملاك ومعدم فقد كانت البساطة السمة الغالبة على الجميع وروح المحبة هي السائدة بين الجميع فكفاهم الله شروراً استجلبناها بعد ذلك بطمعنا ومنعنا الفقراء حقهم الذي أمر به الله تعالى وقد كانوا يعملون حتى الظهيرة ثم يقيلون وقت الظهيرة ولا فرق عندهم يقيلون تحت شجرة أو في البيوت التي كانت من اللبن ومسقوفة بالقش فيما يعرف " السباتة " ونادراً ما يعملون بعد الظهر ووقت العصر للتزاور وشرب الشاي وما أجمل نكهة شاي ذلك العصر فقد كانوا يعدونه على " الكانون " بإشعال بعض الحطب وقد كانت للشاي وقتها رائحة مميزة لم تعد موجودة فيه هذه الأيام وخاصة إذا ما أضيف إليه النعناع البلدي الذي كان يعشق جدي زراعته كما كان يعشق زراعة البطاطا والفول السوداني ولا شيء أحب له من زراعة البطيخ وأكله . وكلما نظرت وتأملت فيما أصاب زروعنا ومزارعينا هذه الأيام وجدت نفسي تلقائياً استحضر في ذهني صورة جدي وذلك الزمن الجميل ولا أجد سبباً لما نعانيه الآن من أمراض في الزروع لم تجدي معها نفعاً السموم والكيماويات وجدت أنهم دفعوا تلك الأمراض بمرضاة الله والقناعة ومعرفة حقوق الفقراء وأبناء السبيل والمساكين فيما خولهم الله فيه رغم ما كانوا يكابدونه من عناء الحياة وشظف العيش إلا أن نفوسهم كانت ملؤها القناعة وحب الله ولما أصابنا الطمع وحب الدنيا منعنا الفقراء حقهم الذي وصانا الله فأصبحنا كأصحاب الجنة المذكورة في القرآن لإذ قال فيهم ربنا " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ" وضننا على أبناء السبيل والفقراء فابتليت زراعاتنا بأمراض ما انزل الله بها من سلطان فابتلي النخيل بالعفن لأنه يباع على النخل وكثيرون يبيعونه قبل نضجه بل ولأكثر من موسم قادم وداهمت الحشرة القشرية والسوسة الحمراء زراعات القصب فهو محصول لا يرى الفقير منه شيء فهو يورد المحصول للشركة ويتقاضى منها الثمن دون أن يراه فقيراً ولا مسكيناً اللهم إلا من رحم ربي ممن يخافون الله فهم قد يخرجون زكاة زرعهم وقس على ذلك في كل صنفٍ ولون تجد المنع منا والابتلاء من صنع أيدينا ولا يكاد يفارق مخيلتي منظر كنت كثيراً ما تشاهده في ذلك الزمان الجميل وهو منظر المزارع أو العامل في الغيطان وقت الصلاة يتوضأ من القناة ويقف على أي بقعة ويتوجه للقبلة ويؤدي فرض الله أليس هذا وحده كفيلاً باستجلاب البركة واستحضارها ودفع الضرر وإبعاده .