الأسبوع الماضى تركنا قيس وأصحابه من شباب الحى بجبلى النعان.. هو يبكى من شدة الولع.. ويتعذب من ألم الفراق.. وهم يحاولون التسريه عنه ومواساته بعد فراق ليلى، وظلوا على حالهم هذا أياما عدة.. دون جدوى.. حتى هطلت السماء بأمطار غزيرة.. أعقبها سيول كثيرة.. جعلت الدمع يتساقط من عين العاشق الموجوع.. فأخذ يبكى وينشد: جرى السيل فاستبكانى السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتى غروب وما ذاك إلا حين أيقنت أنه يكون بوادٍ أنت فيه قريب أظل غريب الدار فى أرض عامر ألا كل مهجور هناك غريب ولا خير فى الدنيا إذا أنت لم تزر حبيبا ولم يطرب إليك حبيب وأخذه أصحابه إلى جبل آخر.. «التوباد» ليرحلوا عنه، لعل رشده يعود إليه.. ولكن هيهات.. فقد تذكر أنه وليلى فى صباهما كانا يرتادان هذا الجبل وهما يرعيان أغنام عشيرتيهما، ولما ذهب عقله.. كان يذهب وحده إلى هذا الجبل ويقيم فيه، ثم يهيم على وجهه حتى يصل إلى نواحى الشام، فيسأل من يصادفه: أين أنتم من أرض بنى عامر؟.. فيخبرونه- بعد أن يرقوا لحاله- أنه بالشام وعليه أن يتبع نجم كذا حتى يعود إلى دياره، ولكن كثيرا ما كان يجد نفسه فى أرض غريبة.. فيسأل: أين أنا من أرض بنى عامر؟.. فيجيبه من يسأله: أنت فى اليمن وعليك أن تتبع نجم كذا للعودة إلى قومك. وقد تذكر قيس كل ذلك عندما وقعت عيناه على جبل التوباد فأخذ يبكى ويقول: وأجهشت للتوباد حين رأيته وكبر للرحمن حين رآنى وأذرفت دمع العين لما عرفته ونادى بأعلى صوته فدعانى فقلت له: قد كان حولك جيرة وعهدى بذاك الحى منذ زمان فقال: مضوا واستودعونى حديثهم ومن ذا الذى يبقى على الحدثان وقد أتاه من أخبره أن ليلى ارتحلت مع أبيها وقومها ناحية العراق.. وأنها مريضة.. فزاد همه واشتد ألمه.. وأخذ ينشد: يقولون ليلى بالعراق مريضة فياليتنى كنت الطبيب المداويا تمر الليالى والشهور ولا أرى غرامى لها يزداد إلا تماديا ألا يا حمامات العراق أعيننى على شجنى وابكين مثل بكائيا ثم اشتد المرض عليه.. وطال جنونه.. فقال بعض رجال الحى لأبيه: احجج به إلى مكة وادع الله أن يلطف به.. وأمره أن يتعلق بأستار الكعبة.. ويسأل الله أن يعافيه مما به.. ويبغض ليلى إليه.. لعله يخلص من هذا البلاء، ولكن يموت الزمار وأصابعه تلعب.. كما يقول المثل.. فأثناء سيره مع أبيه فى أحد الأودية لاحظ حمام يتجاوب.. فبكى قائلا: ألا يا حمام الأيك مالك باكيا أفارقت إلفا أم جفاك حبيب دعاك الهوى والشوق لما ترنمت هتوف الضحى بين الغصون طروب تجاوب ورقا قد سمعن لصوتها فكل لكل مسعد ومجيب وعندما بلغوا منى أقاموا فيها.. وفى الليل سمع أحد الأشخاص يصيح: يا ليلى.. فصرخ المجنون صرخة خلعت قلوب من حوله.. وسقط مغشيا عليه.. ثم أفاق فى الصباح أصفر الوجه ذاهلا، فأنشد يقول: عرضت على قلبى العزاء فقال لى من الآن فايأس لا أغرك بالصبر إذا بان من تهوى وأصبح نائيا فلا شىء أجدى من حولك القبر ودعا داع إذ نحن بالحيف من منى فهيج أشجان الفؤاد وما يدرى دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائر كان فى صدرى دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه وليلى بأرض عنه نازحة قفر وبعدما هبطا من منى.. طلب منه أبوه أن يتعلق بأستار الكعبة.. وأن يسأل الله تعالى أن يعافيه من حب ليلى، فتعلق قيس فعلا بأستار الكعبة وقال: اللهم زدنى بليلى حبا وبها كلفا ولا تنسنى ذكرها أبدا.. ثم أنشد شعرا: دعا المحرمون الله يستغفرونه بمكة وهنا أن تمحى ذنوبها وناديت أن يا رب أؤل سؤلتى لنفسى ليلى ثم أنت حسيبها فإن أعط ليلى حياتى لا يتب إلى الله خلق توبة لا أتوبها وكم قائل قد قال تب فعصيته وتلك لعمرى توبة لا أتوبها فيانفس صبرا لست والله فاعلمى بأول نفس غاب عنها حبيبها ثم انطلق فى الصحراء هائما.. وكان لا يأكل إلا ما تنبت الأرض ولا يشرب إلا مع الظباء.. وطال شعر جسده ورأسه حتى ألفته الوحوش ولم تكن تنفر منه. *** وإلى الأسبوع القادم إن شاء الله