مازالنا مع العاشق المسكين قيس بن الملوح والذى كان ضحية عادة عربية قديمة.. وهى ألا يتزوج رجل وامرأة انتشرت الأخبار عن حبهما لبعضهما.. وهو ما كانوا يسمونه «التشبيب». فقد أراد أبوه أن يحسم تلك العلاقة بعد أن رأى ابنه على وشك الضياع «وليس على حاله نكرو» فأهداه خمسين بعيرا وراعيها مهرا لليلى.. ولكن أباها المهدى رفض المهر ولم يكتف بذلك.. بل أبلغ أمره وعشقه إلى الحاكم الذى أهدر دمه وتوعده بالقتل إن عاود المرور بحيهم.فما كان من قيس إلا أن قال: ألا حجبت ليلى وآلى أميرها علىّ يمينا جاهدا ألا أزورها على غير ذنب غير أنى أحبها وأن فؤادى رهنها وأسيرها وعندما علم المهدى بموقف قيس وأنه لا يخشى التهديد ولن يتراجع عن محاولات الوصال مع ابنته قرر الرحيل إلى منطقة أخرى بعيدا عن الديار، ثم جاء قيس كعادته ولم يجدهم فقصد مكانها وألصق صدره به وأمرغ خديه فى التراب وهو يبكى ويقول: يا صاحبى ألم بى بمنزله قد مر حين عليها أيما حين إنى أرى رجعات الحب تقتلنى وكان فى بدئها ما كان يكفينى ألقى من اليأس تارات تقتلنى وللرجاء بشاشات فتحيينى نعم. لم يعد مجرد التمنى والرجاء يكفى لراحة قيس.. بل دخل إلى مرحلة اليأس القاتل.. وبدأ عقله يذهب عنه.. وكثيرا ما شوهد وهو يهذى ويخطط فى الأرض ويلعب بالتراب والحجارة.. ويغيب عن الوعى إلا عندما يسمع باسم ليلى فيرجع إليه عقله ويخاطب محدثه.. وكان دائما ما يردد: إذا ذُكرت ليلى عقلت ورجعت عوازبُ عقلى من هو متشعب وقالوا صحيح ما به طيف جنة ولا لهم إلا افتراء التكذب وشاهد وجدى دمع عينى وحبها برى اللحم عن أحناء عظمى ومنكبى وأصبحت من ليلى الغداة كناظر مع الصبح فى أعقاب نجم مٌغرب وقد حاول نوفل بن عوف وكان مسئولا عن جمع الزكاة من بنى عامر لوالى الحجاز فى عهد بنى أمية أن يتوسط له.. بعد أن شاهده فى تلك الحالة.. واصطحبه بالفعل إلى أهل ليلى.. ولكنهم رفضوا مقابلته ووساطته.. ومنعوا دخوله حيهم ومعه «المجنون» كما وصفوه: وتمر الأيام والليالى ويلتقى قيس بليلى فجأة.. فيسقط مغشيا عليه من المفاجأة.. فرق له حال بعض الفتيان من حى ليلى فأخذوه وحاولوا إفاقته.. وعندما انتبه لحاله أخذ يخاطب ليلى أن ترحمه مما هو فيه.. فهى داؤه ودواؤه.. وأن حياته ووفاته فى يدها، وهى تطيب خاطره وتقوله له إنها لو وجدت سبيلا إلى شفاء دائه ما تأخرت به حتى لو كان نفسها.. فأخذ يبكى ويقول: أقول لأصحابى هى الشمس ضوؤها قريب ولكن فى تناولها بُعد لقد عارضتنا الريح منها بنفحة على كبدى من طيب أرواحها برد ومازلت مغشيا علىّ وقد مضت أناة وما عندى جواب ولا رد عدينى - بنفسى أنت - وعدا فربما جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد ولم يجد أبوها بدا من زواجها.. بعد أن تقدم لها خطاب كثر وكانت دائما ترفضهم.. ولكنها وافقت أخيرا على شاب من ثقيف يسمى «ورد».. وهو الذى تحدث عنه البعض بعد ذلك عندما قالوا لقد تركت ليلى «ورد القوافى واختارت ورد ثقيف»! وعلم قيس بما حدث فقال: دعوت إلهى دعوة ما جهلتها وربى بما تخفى الصدور بصير فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت فهل يأتينى بالطلاق بشيُر؟ ثم سمع أن الزواج على وشك أن يتم وأن أهلها يريدون نقلها إلى الثقيف.. فعلق: قطاه غرها الشرك فباتت تجاذبه.. وقد علق الجناح وعندما هموا بالرحيل بها أخذه أبوه ليلقى نظراً عليها مستترا ليشفى شيئا من غليله.. فما رأها حتى بكى بكاء شديدا وهو يقول: ألا أيها القلب الذى لج هائما بليلى وليدا لم تقطع تمائمه أفق قد أفاق العاشقون وقد أنى لما بك أن تلقى طبيبا تلائمه فما لك مسلوب العزاء كأنما ترى نأى ليلى مغرما أنت غارمه وعندما ارتفع صوته بالبكاء والشعر.. خشى أبوه من افتضاح أمرهما.. فتسلل به منصرفا.. ولكن قيس أخذ يردد: ذد الدمع حتى يظعن الحى إنما دموعك أن فاضت عليك دليل وكان قيس يلوم قومه وحيه.. وهل لشجى مثله على حاله نكره.. فكيف يسمحون بزواج ليلى من آخر وفراقها عنه؟ وقد حاول فعلا.. بعض شباب الحى التسريه عنه.. فأخذوه وابتعدوا به إلى جبل «النعمان».. وقال له أحدهم إن هذا جبلى النعمان وكانت ليلى تنزل بهما.. قال له أى الرياح تأتى من ناحيتهما؟ فأجاب: الصبا، فقال والله لا أترك هذا المكان حتى تهب رياح الصبا، فظلوا فى مكانهم ثلاثة أيام.. حتى هبت الريح المنتظرة.. فأخذ ينشد: أيا جبلى النعمان بالله خليا سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفسى مخزون تجلت همومها *** لله درك ياقيس.. لقد أضنانى السهر.. وما قلبى من حديد ولا حجر. وإلى الأسبوع القادم إن شاء الله..