بداية يجب أن نؤكد على أهداف ثورة يناير التى غيرت وسوف تغير مسار الحياة فى مصر والمنطقة والعالم، هذه حقيقة مؤكدة يجب أن يقبل بها الجميع - معارضون ومؤيدون - أو حتى صغار الفلول الذين لم تتلوث أياديهم بفساد أو دماء أو استبداد، بمعنى آخر.. فإنه لا مساومة على ثورة يناير من حيث المبادئ والأهداف والقيم التى رفعتها وكانت سبباً فى اندلاعها. وإذا كانت هناك أنباء عن مصالحة بعض الشخصيات ورجال الأعمال المرتبطة بالنظام السابق فإنها يجب ألا تتجاوز مجالات الأعمال والأنشطة التجارية التى يستفيد منها ملايين المواطنين نتيجة سيطرة النظام السابق على مقدرات البلاد والعباد على مدى عشرات السني هذا الأخطبوط الفاسد تشعب وتمدد فى كل الاتجاهات وفرض سيطرته على كل المستويات.. من رئيس الفراشين.. وحتى المؤسسات السيادية الكبرى، ومازال بعض المنتمين لهذا النظام يعيشون فى ذات الفكر الفاسد الذى يدعمه ويغذيه إعلام أكثر فساداً وشبكة عنكبوتية أشد خطراً. ومع ذلك فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو: هل نقبل بالمصالحة من حيث المبدأ؟ من حيث كونها وسيلة من وسائل التعايش والاستقرار فى وطن يمر بمرحلة عصيبة تتطلب تكاتف الجميع. دعونا نتحدث عن أسباب عقائدية وإنسانية وبراجماتية للمصالحة، وأولها نداء القرآن الكريم:( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) و (فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) و (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).. إلى آخر الآيات والأحاديث النبوية التى تدعو إلى العفو والصفح والتسامح والغفران، إذاً فهناك سبب دينى قوى يدعونا إلى التسامح والتجاوز عن الأخطاء (العفوية غير المقصودة). وهناك سبب إنسانى واجتماعى أيضاً.. فلا يمكن أن نعيش فى مجتمع متنافر متحارب متصارع.. يأكل بعضنا بعضاً.. وينهش بعضنا لحم بعض، هذا وضع مستحيل ومن أسباب الاحتقان السياسى الذى نشهده الآن، نحن نريد أن ننسى ذواتنا ومصالحنا الشخصية وأن نتعامل من منطلق المواطنة.. من منطلق أننا مصريون حريصون على مصلحة مصر.. من منطلق الجيرة والعلاقة الطويلة المتحدة مع زميل العمل وجار البيت وعابر السبيل، هذا واقع لا نستطيع الفكاك منه. السبب البراجماتى الثالث للمصالحة يكمن فى تداخل العلاقات الشخصية والعائلية مع المصالحة العملية بود مع التنظيمات الحزبية والسياسية والثقافية (السابقة والحالية واللاحقة أيضاً) فهذا السلفى يتعامل مع مواطن قبطى أو ليبرالى.. وذاك الإخوانى له مشروع مشترك مع زميل يسارى.. إلخ المشاهد العديدة التى نراها ونعيشها ونتعايش معها ولا نستطيع تجاهلها أو إلغاءها. وقد يرى البعض أن فى هذا السبب الثالث نوعاً من النفعية أو حتى «الميكيافيلية»، ولكننى أراه تقييماً واقعياً لا نستطيع تجاهله.. كما أنه قد يكون «مرحلة انتقالية» مطلوبة الآن لتجاوز محنة الوطن.. والتمهيد لانطلاقته القادمة بمشيئة الله. *** ولكن السؤال الذى يفرض نفسه الآن وبقوة: ما هى أسس المصالحة المطلوبة؟ * أولاً: رفض التصالح مع أعداء الثورة الذين اتخذوا مواقف صريحة ضدها من اليوم الأول لانطلاقتها.. فهؤلاء معروفون بالاسم والتاريخ والارتباطات.. ومنهم من يجاهر علناً بالعداء لثورة يناير.. بل إن بعض هؤلاء السفهاء يخطئون فى حق الثورة والثوار الأطهار الذين سالت دماؤهم الذكية فداء للوطن.. ودفعت ثمناً غالياً مقابل حريته. * ثانياً: رفض التصالح مع من تلوثت أياديهم بدماء الشهداء.. بدءاً من القناصين وانتهاء بجيش البلطجية المأجورين.. هذا الجيش الذى مازال ينخرط فيه الآلاف ويحظى بأسلحة متنوعة وكثيفة وبنفوذ لدى زبانية النظام القديم فى بعض أجهزة الدولة.. للأسف الشديد هؤلاء البلطجية شاهدناهم أثناء الثورة.. وقد شهدت جانبا منها يوم 2 فبراير 2011 خلال موقعة الجمل. * ثالثاً: لا تصالح أو مصالحة مع رموز الفساد والنهب والاستبداد وهؤلاء أيضا معروفون.. فهم الذين مارسوا السرقة والرشوة وكل أشكال الفساد على مدى عقود وارتبطت بهم دوائر عديدة فى الدولة البائدة.. بل إنهم أدمنوا الفساد وأفسدوا البلاد والعباد، وللأسف الشديد أن بعض الأحكام القضائية منحت أغلب هؤلاء البراءة بسبب نقص الأدلة أو طمسها أو حرقها عمداً.. أو نتيجة الميول السياسى والمصالح الشخصية التى ارتبط بها هؤلاء المفسدون فى الأرض. * رابعاً.. لا مصالحة مع من تآمروا ويتآمرون ضد بلادهم.. وللأسف الشديد فإن بعض هؤلاء يتآمرون عمداً ويحترفون فن المؤامرة على بلادهم.. كما أن جانبا منهم إما مضلل إعلاميا (من إعلام يسيطر الفلول على أغلبه حتى الآن) وإما مرتبط بالمصالح والإغراءات أو الضغوط مع زبانية النظام السابق الفاسد، لذا لم يكن غريباً أن يتحالف بعض هؤلاء مع الفلول ويتفاوضون للعمل من خلال أحزابهم أو تحت يافطات أحزاب جديدة.. وما أكثرها عدداً.. وما أقلها تأثيراً ووزناً. * خامساً.. لا مصالحة مع إعلام الفتنة والشائعات والهدم والتخريب، هذا الإعلام مرتبط علناً بفلول النظام السابق.. يخضع لأوامره.. يتلقى تمويله وعطاياه.. ويدين له الولاء فكراً وعملاً وتوجيهاً، وللأسف الشديد فإنه لا فائدة مع هؤلاء سوى المواجهة بذات اللغة (الإعلام ثم الإعلام ثم الإعلام).. ولكن شريطة أن يكون إعلاماً محترفاً على أن يحظى بأعلى مستويات المهنة وأحدث تقنيات العصر وذروة الخبرات البشرية، هذا إذا أردنا أن نفوز فى معركة العقول والقلوب! * سادساً.. لا مصالحة إلا على من يقبل بشرعية النظام الجديد بكل أركانه ومؤسساته.. بدءاً من مؤسسة الرئاسة وانتهاءً بكل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فلا هدم أو مساس بمؤسسة القضاء أو البرلمان أو الحكومة.. أو القوات المسلحة أو الشرطة، نعم إننا نحتاج إلى تطهير وتطوير.. ولكنه يجب أن ينبع من داخلها من أصحاب الشأن أنفسهم.. فهم أدرى بمشاكلهم وقضاياهم.. وهم المستهدفون من أى تطوير أو تطهير.. كما أن الوطن مستفيد أيضاً. *** وبعد استيفاء أسس المصالحة.. يمكن أن ننتقل إلى مرحلة المشاركة والشراكة فى بناء الوطن.. وهذه مرحلة ضرورية ومطلوبة وبشدة الآن.. وليس غداً، ولكننا يجب أن نحدد ما هى مجالات المشاركة وما هى آفاقها. بداية يجب أن نتعاون فى إعادة بناء الاقتصاد وتأهيله للخروج من أزمته الخطيرة التى نشهدها ونعيشها جميعاً، هذه حقيقة لا ينكرها أحد، كما أن بناء الاقتصاد سوف تكون له عوائد إيجابية كثيرة على الجميع.. مؤيد أو معارض.. مسلم أو مسيحى.. إخوانى أو يسارى.. سلفى أو ليبرالى، الكل سوف يستفيد، فلا تقدم ولا نهضة لوطن لا توجد فيه لقمة العيش الكريم للجميع دون استثناء. أيضاًَ يجب أن نتعاون فى استعادة الأمن المفقود.. وهنا يجب أن نشير إلى أن الفلول مازال لهم نفوذ فى أجهزة الأمن المختلفة.. يتعاملون بنفس الآليات القديمة للأسف الشديد، هذا واقع نراه فى كثير من المصالح والأجهزة الحكومية، وهو دافع مرفوض يجب إصلاحه. ولكن الإصلاح لن يتحقق إلا من خلال تعاون الجميع ووضع أسس لإعادة هيكلة وبناء أجهزة الأمن بما يخدم فكرة ثورة يناير وتوفير الخدمات للجميع فى مجال واسع للمشاركة.. فكلنا يحتاج إلى الارتقاء بخدمات التعليم والصحة والمرافق العامة التى تدهورت.. حتى الطرق التى تكسرت وبدت عوراتها وساءت أحوالها.. ولا حياة لرؤساء الأحياء.. وكأنهم ليسوا أحياء أو يعملون من أجل الأحياء!! أيضاً يمكن استثمار العلاقات المتشعبة والممتدة لكل شرائح الوطن داخليا وإقليميا ودوليا فى بناء الشراكة المنشودة، فلا يمكن أن نضع خطاً فاصلاً (بالمسطرة) بين الماضى والحاضر أو بين الحاضر والمستقبل، فهذه المراحل متداخلة وعلاقات الأشخاص والمؤسسات مترابطة ومتواصلة.. شئنا أم أبينا. هذه رؤيتى المتواضعة لأسس المصالحة وآفاق المشاركة التى يتطلبها الوطن بشدة الآن، وهذا مجرد اجتهاد يحتمل الخطأ والصواب والتعديل أيضاً، ولكنه يفتح الباب لحوار عميق ومتواصل هو هذه القضية الحيوية.