عام كامل مضى على رحيل قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية السابق، ومع ذلك فمازالت سيرته العطرة فى قلوب المصريين جميعًا?، ولما لا وهو الرجل الذى يؤكد المحيطون به من المسلمين قبل المسيحيين أنه كان صمام أمان للوحدة الوطنية وعاشقًا لمصر وترابها، وهو الذى أفنى عمره للحفاظ على هوية مصر وعروبتها فاستحق عن جدارة لقب «بابا العرب».. فى البداية أكد الأنبا يوأنس أسقف الخدمات وسكرتير البابا الراحل أن البابا شنودة كان علامة فارقة فى تاريخ الكنيسة القبطية حيث نما بالكنيسة روحيًا وفكريا وعالميا، كما كان قداسته أيضًا صمام أمان للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر.. وأضاف الأنبا يوآنس: لقد كان لقداسته قلب كبير مملوء بالإيمان وكان قلبًا متسعًا للجميع أشبه بنهر سرعان ما يفترش فيه جميع الشوائب ليقدم للجميع ماء رائقًا صافيًا بالحب، وكان لقداسته أيضًا فكر ثاقب دائمًا يفكر بطريقة موضوعية وينظر نحو الهدف وهو الخير لمصر وللجميع. الغائب الحاضر من جهته وصف الشيخ علوى أمين خليل البابا شنودة بأنه عاشق مصر الغائب الحاضر، فهو القائل إن مصر وطن يعيش فينا وليس فقط وطنًا نعيش فيه، كان وطنيًا محبًا لوطنه أدى دوره حتى لقى ربه، رحل بجسده ولم يرحل بقوله وفكره، فكان محبًا لمصر بكل طوائفها مسلميها ومسيحييها بل كان بشوشًا فى وجوهنا كمسلمين ربما أكثر من بشاشته فى وجوه الأخوة المسيحيين. وأضاف الشيخ علوى ما استشرته فى شئ إلا وأعطانى النصيحة بعلمية تفوق ما أبديه أنا، والغريب أن أدلته لى فى كثير من الأحوال كانت إما عن أدب العرب شعرًا أو نثرًا، أو آية من كتاب الله. لقد كان البابا شنودة – والكلام مازال على لسان الشيخ علوى- عالمًا ومؤرخًا، فاهمًا وفصيحًا، قل ما شئت فهو من علماء الزمان ومن قراء مصر الأفاضل، كنت أنتظر مقال الأحد لأنى أعلم أنه لم يكن يقدمه للأخوة المسيحيين فقط ولكن يقدمه لكل المصريين، أما دروسه ومحاضراته الإسبوعية فلو جمعت وقدمت للمصريين لعلموا أنه العاشق الأول لمصر وترابها فلم يكن فقط بابا الكنيسة المصرية ولكنه كان نبض الأمة العربية والإسلامية. وأضاف علوى أعرفه منذ عام 1977 وقد كان أول لقاء لى معه فى دير أبو سفين بمصر القديمة، وكنت مرافقًا لوفد من دولة خارجية، فابتسم لى وقال ما الذى أحضرك إلى دير الراهبات؟ فأجبته بصحبتك يا سيدنا، وضحك كثيرًا وقتها، ومن ساعتها إلى أن انتقل من عالمنا لم ينسانى بالاسم الرباعى، فقد كان حاد الذاكرة نقى السريرة ولقد حضرت الوداع الأخير له وذهبت إلى مقبرته فى دير الأنبا بيشوى مرة أو مرتين كزائر. أما الكاتب الصحفى والمفكر نبيل شرف الدين فأكد أن البابا شنودة هو إحدى علامات ورموز ليس فقط الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بل للشعب المصرى كله، وأضاف لا أزايد إذا قلت إنه كان (بابا العرب) والذى أطلق عليه هذا اللقب هو الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وبالتالى فهذا القديس الحاضر الغائب كتب عليه السياسة منذ اللحظة الأولى لسياسته التى تزامنت مع الأحداث الطائفيه فى الخانكة التى كانت تمثل موجة من الطائفية ضد شركائنا المسيحيين فى الوطن.. حملات تشويه وأضاف شرف الدين لقد هيأت لى الأقدار أن أكون فى بداية حياتى العملية قريبًا من قداسته حيث كنت وقتها ضابطًا بالشرطة وكلفت من قبل وزارة الداخلية بمرافقة قداسة البابا وتأمين حياته، ورغم هيبة البابا شنودة التى جعلتنى كثيرًا ما أتردد فى الحديث معه، إلا أنه كان كثيرًا ما يبتسم بخفة الظل والتواضع رغم مكانته الدينية السامية فقد كان ابن بلد حقيقى فكان يطلق النكات والقفشات التى تتسم بالتهذيب وخفة الدم غير المصطنعة فشجعنى ذلك فى أن أسأله عن كثير من الأمور، وأذكر فى إحدى المرات الرهبان تحت التمرين وكان يطلق عليهم «اخوة» وكانوا قريبين منى بحكم السن وبحكم أنه لم يتم رسامتهم بعد، فتحدثت معهم فى استغلال الوقت فى الرياضة كلعب كرة القدم فطلبوا منى الحصول على موافقة المسئولين بالدير، لكنى سألت قداسته مباشرة فأجابنى أنه لا يوجد مانع لذلك، وبالفعل قمنا بتكوين فريق لممارسة كرة القدم من هؤلاء الاخوة والفريق الأمنى المرافق لى كأمناء الشرطة والضباط، وكانت أيامًا جميلة وبعض هؤلاء الرهبان أصبحوا أساقفة فيما بعد. وأضاف شرف الدين لقد تعرض البابا لحملات تشويه ودعاية سوداء وذات مرة سألته عما يثيره البعض سواء من المسيحيين أو المسلمين عن تقسيم مصر، فأطرق قداسته قليلًا ثم نظر بعينيه الثاقبتين فى عينى مباشرة ووضع يده اليمنى على كتفى، وقال لى لنفترض جدلًا أنه صارت هناك دولة قبطية أو مسيحية تبدأ من العياط وتنتهى فى أسوان ورغم أن هذا مستحيل لكن ما هو لقبى بالضبط وقتها يا بنى؟! وأجاب قداسته لقبى الآن بابا الإسكندرية فهل سأحتاج وقتها إلى فيزا لزيارة الدير الذى تربيت فيه أو لزيارة مدينة الإسكندرية التى أحمل لقبها؟! يا بنى مصر كلها «بتاعتنا كلنا» ولن تستطيع أن تقسم شارعًا واحدًا منها اسمه شارع الصاغة حيث تتداخل محلات المسيحيين والمسلمين معًا بشكل يستحيل تقسيمه، يا بنى لن يحدث هذا أبدًا لأنه ليس فى مصلحة مصر مسلمين ومسيحيين. رمز وطنى ودينى من جهته أكد الدكتور القس أندريه زكى نائب رئيس الطائفة الإنجيلية أن البابا شنودة كان رمزًا وطنيًا قبل أن يكون رمزًا دينياً، وأضاف على سبيل المثال موقفه من دولة اسرائيل كان موقفًا سياسيًا وطنيًا خالصا، وفى نفس الوقت موقفًا لاهوتيًا متميزًا فهو اعتبر أن دولة إسرائيل الحالية ما هى إلا كيان سياسى ولا علاقة لها بنبوات العهد القديم، وأن فكرة أن اليهود هم شعب الله المختار فكرة تحققت وانتهت تمامًا فى شخص السيد المسيح، وبناء على هذا الأساس اللاهوتى رفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلى وأصر على أن زيارته للقدس لا تكون إلا بمرافقة مسلمى مصر. وأكد زكى أن هذا الموقف اللاهوتى والوطنى ساهم بشكل كبير فى الالتحام بين الأقباط والمسلمين فى مصر، يأتى بعد ذلك حكمة البابا فى التعامل مع الأحداث وعدم التعامل بمنطق رد الفعل وهو ما جنب مصر الكثير من التوترات، وأخيرًا فإن علاقته بالقيادات الإسلامية كانت علاقة متميزة وساهمت فى السلام الاجتماعى والوحدة الوطنية.. تجربة ثرية من جهة أخرى قال المفكر كمال زاخر المنسق العام لجبهة العلمانيين فى الكنيسة إن البابا شنودة يمثل تجربه مهمة وثرية سواء بالنسبة لمصر أو للكنيسة، لأنه جاء فى لحظة مهمة جدًا فى تاريخ مصر ورحل أيضًا فى لحظة مهمة، فقد ولد فى أغسطس 1923 وهى السنة التى بدأت فيها ثورة 1919 تؤتى ثمارها ورحل فى مارس 2012 بعد زلزال 25 يناير، وما يحمله من تناقضات وإرهاصات انهيار مكاسب ثورة 19.. وأضاف زاخر لقد كانت حياته كبطريرك سلسلة ممتدة من العمل الوطنى والدينى للدفاع عن هوية مصر وعروبتها، والدفاع عن الكنيسة فى مواجهة تيارات التطرف والإرهاب والترويع الذى استهدف الأقباط، وكان بالنسبة للكنيسة باعث نهضة وأعاد الاعتبار للتعليم القبطى الروحى واللاهوتى والاهتمام بالشباب والكرازة والخدمة، الأمر الذى أعاد الحياة لهذه الكنيسة التى تعد أقدم مؤسسة مصرية.. أما عن علاقته بالبابا فقال زاخر فى شبابى المبكر كنت أواظب على حضورى اجتماعاته كأسقف للتعليم فى الإكليريكية، وتعرفت من خلاله على الكنيسه والكتاب المقدس بعمق، ثم عندما اختلفت مع بعض توجهات الإدارة الكنسية كان يتقبل هذا الاختلاف، وقد قدر لى أن أقابل قداسته بعدها فاستمع لى بصدر رحب كان محل استغراب الدائرة المحيطة به، ولذلك كان ألمى شديدًا عند رحيله لاحترامه الاختلاف وأبوته التى يجب أن تكون محل تقدير.. وأشار زاخر إلى أن أهم ما كان يميز البابا شنودة قدرته على التعامل مع الأحداث بحكمة وهدوء وكان صمام الأمان الذى يحول دون انفجار الوطن فأفسد مخططات التطرف التى كانت تحاك ضد الكنيسة والوطن.. من جهته وصف القمص صليب متى ساويروس عضو المجلس الملى العام البابا شنودة بأنه المصرى الأصيل حتى النخاع، فهو الوطنى الذى زرع الروح المصرية الوطنية ليس فى نفوس الأقباط فقط ولكن فى نفوس المصريين، فهو صاحب الانشودة الجميلة التى يتغنى بها المصريون جميعًا «أن مصر ليست وطنا نعيش فيه ولكن وطنًا يعيش فينا» وهو أيضًا صاحب الموقف العربى الأصيل عندما قال لن أدخل القدس إلا مع أخوتى المسلمين وكان دائمًا يحتوى بحكمته الأزمات الطائفية التى كان يمكن أن تحدث أنقسامًا فى الشعب المصرى بين أقباطه ومسلميه.. آفاق عالمية وأضاف صليب أن البابا شنودة خرج بالكنيسة القبطية للآفاق العالمية حتى وصل عدد الكنائس المصرية فى الخارج إلى حوالى 450 كنيسة فى كل قارات العالم، وقد كان أول بابا يؤسس اسقفيات فى أوروبا والأمريكتيين وأستراليا وأفريقيا، ووصل عدد هذه الايبراشيات إلى 27 ايبراشية، وبلغت وطنيته أنه كان حريصًا على توصية كنائس المهجر على إنشاء مدارس ليتعلم فيها أبناء المهاجرين اللغة العربية حتى يتواصلوا مع أهلهم فى مصر، مشيرًا إلى أن البابا شنودة رسم فى حبريته 117 أسقفًا داخل وخارج مصر ، ولاهتمامه بالرهبنة وصلت عدد الأديرة فى عهده إلى 28 ديرًا منها 19 داخل مصر و9 خارجها، بالإضافة إلى 7 أديرة للراهبات أحدهما خارج مصر، ولذلك لم يكن غريبًا بأن يصبح أول بابا مصرى يتم اختياره رئيسًا لمجلس الكنائس العالمى ورئيسًا لمجلس كنائس الشرق الأوسط.. أما عن لقب معلم الأجيال الذى أطلق على البابا – والكلام مازال على لسان صليب – فقد كان البابا أول من أنشأ 17 كلية أكليريكية داخل وخارج مصر، وكان حريصًا على أن يقوم بنفسه بالتدريس فى قاعات الإكليريكية والمعاهد الدينية ويحاضر فى جامعات الشرق والغرب، وحصل نتيجة لذلك على 9 شهادات دكتوراة فخرية من جامعات متعددة ويكفى أنه أول بابا يحصل على جائزة اليونسكو للتسامح الدينى، وأول بابا يسمح للمرأة بالالتحاق بالإكليريكية والتدريس فيها..