تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الرابع عشر من شهر نوفمبر من كل عام بعيد اعتلاء قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للكرسي البابوي، ويأتي احتفال هذا العام احتفاءً بمرور ثمانية وثلاثين عامًا علي تجليس قداسته، فقد تم ترشيحه للجلوس علي الكرسي البابوي بعد نياحة البابا كيرلس السادس في 9 مارس عام 1971 م، حيث كان أحد الثلاثة الذين اختيروا بالانتخاب من بين خمسة مرشحين في 26 أكتوبر عام 1971، ثم اختارته المشيئة الإلهية بالقرعة الهيكلية في 31 أكتوبر عام 1971، ليكون بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية المائة والسابع عشر، وقد صدر في 1 نوفمبر عام 1971 القرار الجمهوري الخاص بتعينه بابا للإسكندرية وبطريركاَ للكرازة المرقسية ثم تم بعد ذلك تتويجه وتجليسه في 14 نوفمبر عام 1971 بحضور عدد كبير من الآباء البطاركة ورؤساء كنائس العالم. ولد قداسة البابا شنودة الثالث في 17 أغسطس عام 1923 في قرية "سلام" مركز "أبنوب" محافظة "أسيوط"، ودعي باسم "نظير" وقد توفيت والدته عقب ولادته مباشرة بسب أصابتها بحمي النفاس فتولي رعايته والده "جيد" كما قامت بإرضاعه والاهتمام به إلي أن كبر سيدة كانت صديقة للأم الراحلة، ولقد كانت تلك السيدة مسلمة الديانة؛ مما يعبر عن عمق العلاقات بين أطياف الشعب في ذلك الوقت، الأمر الذي ترك بذاكرة البابا بصمة عظيمة الأثر لم يمحوها مرور السنوات، ثم أحتضنه شقيقه الكبير "روفائيل" وأخذه معه إلي مدينة "دمنهور" التي كان موظفاً بها في ذلك الوقت. المؤهلات العلمية بعد انتقاله إلي مدينة دمنهور بدأ دراسته في مدرسة الأقباط الابتدائية، ثم درس بمدرسة الأمريكان ببنها، ثم انتقل مع الأسرة إلي القاهرة، وسكنوا في حي شبرا، حيث درس بمدرسة الإيمان الثانوية، حيث نال إعجاب معلميه لتفوقه ودماثة خلقه، وبعد حصوله علي شهادة الثانوية التحق بكلية آداب القاهرة قسم تاريخ ، وحصل علي الليسانس في الآداب سنة 1947، ثم التحق بالكلية الحربية، وتخرج فيها سنة 1948، وكان الأول علي دفعته، هذا وكان قبل تخرجه من كلية الآداب قد التحق بالكلية الإكليريكية، حيث تخرج فيها 1949. الخدمة الروحية بدأ حياته العملية مدرساً في المدارس الثانوية، ولكنه تركها لرغبته في تكريس وقته لخدمة الله، ثم تولي رئاسة تحرير مجلة مدارس الأحد بعد سفر مؤسسها "أدوار بنيامين" في أكتوبر 1949، وفي عام 1952 اختير رئيساَ لمجلس إدارة بيت مدارس الأحد، ثم استقال منه ليتفرغ للأكليريكية وللخدمة، وفي عام 1953 قام بالتدريس في مدرسة الرهبان بحلوان، وفي أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين كان واحداَ من رواد الانطلاقة الرهبانية التي قام بها خدام مدارس الأحد، ففي 18 يوليو 1954 ترهب بدير السيدة العذراء بوادي النطرون باسم الراهب "أنطونيوس السرياني"، وفي عام 1956 بدأ حياة الوحدة في مغارة غربي دير السريان بحوالي 3.5 كم، وفي 31 أغسطس 1958 تمت سيامته قساَ، وفي 30 سبتمبر 1962، تمت سيامته أسقفاَ للتعليم والكلية الاكليريكية والمعاهد الدينية باسم الأنبا "شنودة" ليصبح أول أسقف عام في العصر الحديث وأول أسقف للتعليم، وفي يناير 1965 أصدر العدد الأول من مجلة الكرازة والتي يرأس تحريرها حتي الآن، وفي عام 1969 تم اختياره أول رئيس لرابطة المعاهد اللاهوتية بالشرق الأوسط، في سبتمبر 1971 مثل الكنيسة في الحوار الاهوتي بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الكاثوليكية، وكان لقداسته إسهامات فعالة في مجلس الكنائس العالمي من خلال المطارنة والأساقفة والكهنة، كما رأس قداسته مجلس كنائس الشرق الأوسط لعدة دورات متتالية. القديس أنطونيوس يمثل اسم القديس أنطونيوس في عقل وقلب قداسة البابا قيمة روحية قوية رافقته في كل دروبه، حيث تتلمذ البابا في كنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا، وعندما دخل إلي حياة الرهبنة سمي باسم الأنبا أنطونيوس، كما أطلق اسم القديس أنطونيوس علي العديد من الكنائس والأديرة ومنها علي سبيل المثال دير أقيم بضواحي لوس انجلوس بأمريكا، كذلك أول كنيسة أقيمت بأمريكا، ودير بمدينة فيينا عاصمة النمسا، كما أطلق اسم القديس أنطونيوس علي العديد من الأساقفة والكهنة. التعليم انتشرت تعاليم البابا في جميع أنحاء المسكونة، حيث ألف العديد من الكتب، والتي ترجم العديد منها إلي لغات عدة، كما أن لقداسته آلاف الأحاديث الصحفية والإذاعية والتليفزيونية، وهذا ليس غريباً علي قداسته، فهو أول أسقف للتعليم بالكنيسة القبطية. وقد تجلي اهتمام قداسته بالتعليم في مجالات عديدة منها الكلية الإكليريكية وهي الركيزة الأولي للكنيسة حيث يتخرج فيها الآباء الكهنة والآباء الرهبان والشمامسة بتعليم لاهوتي متميز، وقد امتدت فروعها بالداخل والخارج لتخريج عدد كاف من الخدام، كما اهتم بمعهد الدراسات القبطية بأقسامه المتعددة، حيث أضاف إليه العديد من الأقسام المتخصصة وأخرها قسم ترميم الآثار للمساهمة في العناية بتراث الوطن، وبالإضافة إلي ذلك أنشأ المعاهد العليا المتخصصة مثل معهد الكتاب المقدس الذي يقدم كوادر متخصصة في الدراسات الكتابية، ومعهد الرعاية والذي يختص بالدراسات الرعوية للآباء الكهنة وقيادات الخدمة الكنسية، كما كان لقداسته اهتمام واضح بدارسي الماجستير والدكتوراه في ميادين عديدة مثل: اللاهوت، وتاريخ الطقس، والآبائيات، والفنون القبطية، واللغة القبطية، والصيدلة والطب في التاريخ القبطي داخل وخارج مصر. تأسيس الكنائس ازدهر عهد البابا بتدشين الكنائس سواء داخل أو خارج مصر، حيث كان يدشن مذابح الكنائس ومعموديتها وأيقونتها بكل رعاية أبوية، كما شهد عهده استقلالا للكنيسة الأثيوبية، وتأسيس الكنيسة الاريترية، كما تأسست في عصره الكنيسة الفرنسية القبطية، والكنيسة البريطانية القبطية، وقد وضع المجمع المقدس لتلك الكنائس المبادئ والقواعد التي توضح العلاقة بينها وبين الكنيسة القبطية. تقديس زيت الميرون يستعمل زيت الميرون (والميرون كلمة يونانية معناها دهن أو طيب) في تدشين الكنائس وأواني المذبح، كما يستعمل في المعمودية، وقد قام قداسة البابا شنودة بعمل الميرون المقدس سبعة مرات كان أخرها في 17 أبريل 2008. متعدد المواهب يمتلك البابا شنودة الثالث مواهب عديدة تتنوع بين التأليف والشعر والأدب، فقد ألف العديد من الكتب في المجالات المختلفة مثل الوعظ واللاهوت النظري واللاهوت المقارن وغيرها. كما انه صاحب إبداعات شعرية تدل علي امتلاك ثقافة أدبية متعمقة، وقد بزغت تلك الموهبة لديه وهو في الخامسة عشرة من عمره، بعدما درس وتعلم قواعده، فدبج قصيدة لنقابات العمال وهو في السابعة عشرة من عمره، ونذكر من بعض قصائده علي سبيل المثال وليس الحصر: أبواب الجحيم، ذلك الثوب، هذه الكرمة، أنت لم تنصت، أنا في البيداء وحدي، همسة حب، تائهٌ في غربة، كيف أنسي. كما جاءت أحدث كلمات لقصائده مؤكدة علي محبة الجميع حتي الأعداء إذ يقول فيها: إن جاع عدوك أطعمه ** وإذا ما احتاج تساعده وبكل سخاء تعطيه ** ومن الخيرات املأ يده إن كان ضعيفاً شدده ** أو كان حزيناً تسعده الجوائز حصل البابا شنودة الثالث علي جوائز عديدة تكريماً له علي جهوده ومواقفه الوطنية، وسعيه الدؤوب لترسيخ التسامح الديني، وبث روح المحبة، فقد حصل علي ثلاث جوائز عالمية للحوار والتسامح الديني وحقوق الإنسان، جائزة اليونسكو للحوار والتسامح الديني، جائزة الأممالمتحدة للتسامح الديني، وجائزة القذافي لحقوق الإنسان، كما حصل علي العديد من الشهادات ودرجات الدكتوراه الفخرية من جامعات الولاياتالمتحدة والمانيا. قلب الوطن لم تمنع أعباء البابا الكنسية من المشاركة في هموم وأفراح الوطن سواء الداخلية أو الخارجية كما شارك في العديد من الأحداث البارزة في تاريخ الوطن، ومن ذلك علي سبيل المثال علي المستوي الداخلي شارك في تدعيم الجبهة العسكرية في حرب السادس من أكتوبر عام 1973، كما شارك في تكريم الأديب العالمي نجيب محفوظ بمناسبة حصوله علي جائزة نوبل، أما علي المستوي الخارجي فقد تعددت أسفاره من أجل المشاركة في قضايا حيوية شغلت العالم مثل قضية فلسطينوالقدس، كما شارك في تكريم الدكتور العالمي مجدي يعقوب في لندن، كما القي محاضرات في الداخل والخارج في المساجد والمراكز الإسلامية. مواقف لا تنسي في ذاكرة التاريخ مواقف عديدة يسجلها لقداسة البابا، يستعيد لمحات منها كلما سنحت الظروف بذلك ليؤكد علي مدي تضامنه مع الآخر الذي يعيش معه تحت نفس سقف الوطن أو خارجه، ومن تلك المواقف إصراره علي عدم زيارة القدس إلا جنباً بجنب مع الإخوة المسلمين، وذلك تضامنا مع الشعب الفلسطيني إلي أن ينال استقلاله، ومن مواقفه التي لا تنسي أيضا حرصه علي وجود مدارس اللغة العربية في الخارج للجاليات العربية من المسلمين والمسيحيين علي اعتبار أن اللغة العربية جزء من تراثنا الحضاري والثقافي الذي يجب حمايته والحفاظ عليه من الاندثار.