لست على يقين.. إن كانت «الحكاية» التى سأرويها هنا قد حدثت بالفعل، أم أنها من «التراث» العربى.. الغنى بمثل هذه الحكايات، والتى تكشف عن ذكاء فطرى.. وحيلة واسعة.. فى التعامل مع أمور الحياة اليومية. والحكاية القديمة تقول إنه فى بغداد.. وكانت وقتها عاصمة الخلافة فى العصر العباسى.. وملتقى التجار.. وسوقا للمنتجات المختلفة، جلس أحد تجار الأقمشة يندب حظه، لركود بضاعته، وعدم الإقبال عليها، ثم تصادف أن قصده أحد الشعراء من الصعاليك العرب- وكانوا يهيمون على وجوههم فى البلاد- طالبا شربة ماء، وسأل الشاعر التاجر عن أحواله، وعلم ما يعانيه، فعرض عليه مساعدته فى تصريف بضاعته.. على أن يكون له نصيب من ثمن كل قطعة تباع. وتم الاتفاق وانطلق الشاعر يجوب طرقات المدينة، معلنا عما لديه،داعيا النساء للشراء منشدا: قل للمليحة فى «الخمار الأسود» ماذا فعلت بناسك متعهد قد كان شمر للصلاة ثيابه لما وقفت له بباب المسجد داعيا لله.. مرفوع اليد سائلا عز الشفاعة فى الغد فسلبت منه دينه ويقينه وتركته فى حيرة لا يهتد ردى عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق عيسى وأحمد! فالشاعر الصعلوك، الخبير بأمور النساء وصف المرأة التى ترتدى «الخمار»- الذى يبيعه- بالمليحة والتى إن مرت بأماكن فى الخمار الأسود، بحق النبيين عيسى ومحمد، أن ترد على هذا الناسك العابد.. صلاته وصيامه! ويروى.. أنه بعد انتهاء الشاعر من جولاته، هجمت سيدات المدينة على التاجر، وما هى إلا سويعات قليلة، حتى نفد كل ما كان لديه من أقمشة.. أرأيتم ذكاء الشعراء العرب.. وجمال شعرهم؟.. لقد أحسنوا الوصف.. وأجادوا التعبير. *** واقرأ معى تفاصيل هذه «اللوحة» الفنية التى رسمها.. شاعر عربى آخر.. بكلماته المعبرة، حيث يقول: له خال على صفحات خد كنقطة عنبر فى صحن مرمر ألحاظ.. كأسياف تنادى على.. عاصى الهوى.. الله أكبر! نعم.. الله أكبر.. فخد الوجه كالصفحة البيضاء ناعمة الملمس، عليها خال «شامة»، ومن ينظر له يراه كنقطة عنبر فى طبق من المرمر! كما أن صاحبة هذا الوجه الحسن.. تبدو رموش عينيها طويلة حادة.. وكأنها سيوف تعلن الحرب على كل من لا يقدر الجمال من أصحاب القلوب المتحجرة! وإليك «صورة».. أخرى.. يتغزل راسمها من أحد الشعراء العرب.. فى «الجسد» ولكن بألفاظ جميلة.. ناعمة: قدك المياس يا عمرى يا غصين البان كاليسر أنت أحلى الناس فى نظرى جل من سواك يا قمرى فالشاعر يصف جسد محبوبته، بقطعة الماس، ولكنه مرن يتحرك بيسر.. وكأنه فرع صغير من شجر اللبلاب! ثم يشكر الله- مبدعها- على هذه الصورة.. إنها كالقمر فى تمامه، ومن ثم فهى أحلى الناس فى نظره! *** نعم.. الجمال نعمة من الله.. ولكن جمال «الشكل» وحده لا يكفى.. ونأمل أن يمتد الجمال إلى النفوس والقلوب، حتى يكتمل المظهر مع الجوهر.. وعندها سوف نقول: الله أكبر.. وسبحان من صور! ومرة أخرى.. من لا يحركه العود وأوتاره.. والربيع وأزهاره فهو فاسد المزاج.. ليس له علاج!