حسم الشعب المصرى خياراته مع الدستور والاستقرار ومنح فرصة للرئيس المنتخب لإنشاء نظام ديمقراطى تتحقق به وفيه أهداف الثورة. ولكن نتيجة الاستفتاء يجب أن تدرس دراسة دقيقة للتعرف على دلالاتها والقراءة الصحيحة لها من أجل المستقبل. ومعنى ذلك أن دروس معركة الدستور ظاهرة الأهمية من حيث قراءة المشهد المصرى منذ الثورة وحتى الآن وتحديد التحديات التى تواجهها مصر فى مرحلة ما بعد الدستور. ويمكن القول إجمالاً إن الشعب المصرى قد أجمع على عدد من الثوابت ولكنه تفرق فيما يتعلق بسبل تحقيق هذه الثوابت. فقد أجمع على أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لابد أن تتغير وأن ينعم المواطن بحد أدنى من الطعام والغذاء والمشرب الصحى والمسكن الصحى والرعاية الصحية والكرامة والتعليم والمواصلات ولكن الذى يحقق ذلك كله هو المعرفة والوعى. وهذه الثغرة هى التى باعدت بين الأهداف والنتائج وأول دروس معركة الدستور تتعلق بالنخبة التى صورت الدستور على أنه انتاج التيار الإسلامى وأنه لا يعبر عن المصريين جميعاً وأنه يمكن لدولة الإخوان المسلمين وليس للشعب المصرى بكل طوائفه وأنه أهدر مبادئ الثورة وأهدافها وأنه يؤسس لديكتاتورية دينية تتخذ الشريعة مرجعية لاعمالها فلا تقبل النقد والاعتراض لانه موجه إلى الشريعة وإلى المقدسات . على الجانب الآخر صور أنصار الدستور الموقف على أنه بداية الطريق الصحيح وأنه ينهى المرحلة الانتقالية التى تعرضت فيها مصر لكل المخاطر وأن بإقرار الدستور سيبدأ عصر جنى الثمار كما أنه فريضة واجبة وأن المعارضين للدستور قد ارتكبوا فرية كبرى عليه وأن الدستور عمل بشرى يمكن استكمال نقائصه ولكن المهم أن نبدأ وأن المعارضة لا يهمها إلا القفز على السلطة خاصة أنه لوحظ أثر المال السياسى على بعض المشاهد . أما المراقبون للطرفين فيرون أن الدستور بداية معقولة وأن الخطأ الأكبر الذى لا راد له هو محاولة إشراك الشعب فى صياغة الدستور بعد أن كان الخبراء هم الذين يضعونه ولذلك بدأ التشكيك فى كل شئ من الجمعية التأسيسية إلى أحكام الدستور بل فى نتائج الاستفتاء الأول على الإعلان الدستور فى 19 مارس 2011. كذلك تضمن الدستور ثلاثة ألغام جعلت توحد المعارضة حول رفضه أمراً محتوماً. وهذه الألغام هى لغم الفلول حيث تضمن الدستور نصاً انتقالياً يتعلق بالعزل السياسى لرموز النظام السابق وهو موقف كان القانون يتعامل معه ولكن حكم بعدم دستوريته. أما اللغم الثانى فهو القضاء حيث تضمن الدستور إصلاحاً حقيقياً للقضاء مما دفع بعض القضاة إلى اتخاذ مواقف سياسية يحاسب عليها القانون وهو أمر غير مسبوق فى جميع دول العالم وهذه معركة ممتدة بين هؤلاء القضاة و التيار الإسلامى رغم أن بعض أحكام المحاكم الإدارية قد أنصفت هذا التيار ضد السلطة فى عهد مبارك. أما اللغم الثالث فهو المتعلق بمادتى التأميم والمصادرة وهو أمر يثير الرعب فى قلوب الذين حصلوا بغير وجه حق على أراضى وأموال الشعب بغير وجه حق حتى لو كان ما أخذوه يسوغه القانون الذى وضعه برلمانهم المزور حيث ساد الفساد بالقانون. وهى تهمة يعرفها القانون تحت عنوان الأثراء بلا سبب. ولذلك فقد اتسعت دائرة المعارضين لأسباب تتعلق بمصالحهم. اضيف اليهم طبقة من السياسيين الذين يطمحون إلى المناصب حتى لو كلفهم ذلك التضحية بمصلحة الوطن والمواطنين. هذا البعد المتعلق بالمعارضة هو التحدى الأول الذى تواجهه مصر وليس النظام والتحدي الاكبر هو قبول الحوار لان الثورة دفعت الشعب المصرى كله إلى ساحات جديدة بعيداً عن الشواطئ التقليدية التى كانت تعتصم بالثوابت والاستبداد وخليط من التراث والمأثور الدينى الذى تم الاستعانة به لدعم الوضع الراهن ومقاومة التغيير. ودخل على هذا الخط عدد من زعماء الصوفية والسلفيين. ولذلك فإن التحدى الثانى هو ظهور التيار الإسلامى كلاعب رئيسى فى الساحة السياسية والعامة غريباً عن القوى التقليدية التى لم تره إلا فى السجون والمعتقلات ولذلك استكثرت عليه أن يمتد فى الفضاء السياسى متفوقاً على هذه القوى بالتنظيم وشئ من الدين وإثارة تعاطف الشعب معه. والحق أن التيارات العلمانية والليبرالية لا تزال قاسية فى التعامل مع التيار الإسلامى وقد آن الأوان لكى يعقد الجميع تفاهما يقبل فيه كل منهما الآخر، وأن يثق الجميع أن أدوات الديمقراطية وحدها هى المسموح بها فى التنافس وليس فى الصراع وهذا من أهم الدروس القاسية التى ظهرت فى معركة الدستور. التحدى الثالث هو أن يعود الجميع إلى شاطئ جديد بدلاً من القديم الذى جرفته الثورة فليس معقولاً أن تنطلق الحريات من عقالها فتكتسح الوطن وقيم المجتمع وأظن أن الشاطئ الأقرب ولو بشكل مؤقت هو احترام شرعية الصناديق إلى أن يتم ترشيدها. التحدى الرابع هو المتعلق بسلوك المعارضة وهذه المعارضة، كما ظهر فى النتائج جبهة واحدة فى الواقع قسمان، قسم مسه الدستور بقرح عميق وهم الطوائف الثلاث التى أشرنا إليها وكلها من بقايا نظام مبارك، والقسم الثانى هو الطبقة السياسية التى ضللت الرأى العام وعمل البلطجية تحت لوائها واستخدمت الإعلام الفاسد بكثافة ملحوظة فأدى هذا إلى نشأة فريق من المضللين. ولكن المعارضة انقلبت إلى مناهضة فضيعت على الشعب المصرى فرصة ذهبية فى التعرف على الحقيقة وجارت بشكل واضح على حقه فى المعرفة الصافية. ولعل تحليل المواقف الشعبية فى الإعلام والشارع قد كشف عن حجم هذه الظاهرة المخيفة وكيف أن الإعلام والمعارضة استغلا جميعاً بعض الفئات من ضحايا نظام مبارك لكى يكونوا وقوداً فى معركتهم ضد الوطن تحت ستار المعارضة. التحدى الخامس يتعلق بالحكم، الذى لا يمكن له أن يستقيم إلا إذا بدأ على الفور بحكومة قوية وبرامج واضحة يجنى الشعب أولى ثمارها وهو الأمل الحقيقى وليس الفجر الكاذب، وهذا يتطلب من الرئيس أن يستعين بكتائب الأكفاء والشرفاء والوطنيين من أبناء الأمة.وإذا نجح فى ذلك فإنه قد يكون قد أحسن للمعارضة التى نحتاجها واعية وجادة وحقيقية وعند هذه النقطة سوف يتم الفصل بين الجزء المعارض والجزء المناضل منها ولكن المعارضة فى كل الأحوال ظاهرة، كما أن المعارضة الحقيقية ضرورية لإقامة النظام الديمقراطى. ويترتب على ذلك أن سلوك المعارضة ضد الدستور بما صحبها من صخب عنيف كان يمكن أن تعرض الأمة لخطر قاتل. ولكن يظل دائماً تحدى الانجاز وتحدى المعارضة الصحيحة وتحدى التوافق على أولويات وطنية حقيقية هى أولويات مصر فى المرحلة الجديدة. بقى بعد ذلك أن نشير إلى واجبات ضرورية وهى ترجمة الدستور ترجمة تشريعية وقضائية وهى معركة نرجو أن يفطن الجميع إلى أهميتها خاصة إذا تمكنت المعارضة من أن تكسب أرضاً تؤهلها لمقاعد البرلمان وكراسى السلطة وهو أمل يتطلع إليه الجميع لأن الديمقراطية أمل فى الصدور وتحتاج إلى قيم وثقافة ورجال لنقلها من مستوى الأمل إلى مستوى المؤسسات والسلوك. العام الجديد يحمل لمصر الكثير من الآمال ولكنه يحمل لكل أطراف العملية السياسية الكثير من المسئوليات والأعباء ونأمل أن نحتفل بالذكرى الثانية لثورة 25 يناير احتفالاً جماعياً تنتهى به حالة التربص والتوتر وأن تستغل المناسبات القادمة لإدخال السرور على الشعب وليس للتربص فى معركة جديدة لم يعد الشعب يطيقها كما لم يعد الوطن قادراً على ترف تحملها والمعاناة منها.