ما ينطق به المشهد السياسى المصرى هذه الأيام يؤكد بشكل قاطع أن المحروسة تمر بمرحلة فارقة وغير مسبوقة منذ قيام ثورة يناير قبل قرابة العامين.. بما يجعلنا جميعا وبلا تفرقة بين حاكم ومحكوم أن نضطلع بدورنا الواجب فى إنقاذ ثورتنا وقبلها مصر التى تتعرض الآن لمخاطر جمة تهدد كينونتها كدولة ذات حضارة تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ لآلاف السنين، وكدولة رائدة فى محيطها العربى ذات قومية متفردة تجعل منها «رمانة الميزان» حتى إذا ما أصابها مكروه- لا قدر الله- تأثرت به سائر الدول العربية، وصدق من قال إن مصر هى الوتر الذى تستند إليه الأمة العربية فى استمراريتها كأمة فاعلة فى منطقة الشرق الأوسط، ويترتب على استقرارها.. استقرار كل نظم الحكم العربية والتى إذا ما أنهار نظامها فقل «يا رحمن يا رحيم» على كل الأنظمة العربية واقرأ عليها فاتحة الكتاب!! ومن هذا المنطلق نرى أن من يتابع ما يحدث هذه الأيام فى الشارع السياسى المصرى من ممارسات سياسية خاطئة تشى بأوخم العواقب ليس على مصر وحدها، ولكن على الأمة العربية جمعاء. وقد حدثت خلال الأيام القليلة الماضية أخطاء قاتلة وجسيمة، وقد شارك الجميع فى ارتكابها، حيث تخلينا جميعا عن مسئوليتنا الوطنية حيال هذا الوطن الذى بدأ ينوء بأحمال ثقال فاقت قدرته على التحمل مما يهدده فى مقتل محتوم.. وفى هذا الصدد لا نحدد فئة بعينها لتحمّل المسئولية فيما يجرى، إنما تقع هذه المسئولية علينا جميعا كشعب واحد تتعدد مذاهبه السياسية ومشاربه العقائدية، حيث نجد التيار الإسلامى والذى يحكم البلاد أحد فصائله ينجر انجرارا غير محسوب العواقب إلى أفعال نربأ بأن تلتصق سلوكياتها بديننا الإسلامى الحنيف الذى يؤكد الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبشيء من تدقيق النظر فى هذه الأفعال نراها مجردة من كل حكمة وكل موعظة حسنة.. وما ينطبق على ما يسمى بالإسلام السياسى- وهذه تسمية نرفضها جملة وتفصيلا- ينطبق أيضا على ما يسمون أنفسهم بتيار الليبرالية والذى انبثقت عنه ما يسمى بجبهة الإنقاذ الوطنى والتى نراها تتقاسم ذات الأخطاء القاتلة والشائنة التى ترتكب الآن فى حق الوطن والمواطن معا.. ومن هنا فإننا لا نتهم فصيلا دون آخر، فالكل أمامنا سواء..حيث تغافلت كل هذه التيارات عن المصلحة المصرية القومية ووضعت نصب عينيها مصالحها السياسية الخاصة فى شكل تتضح فيه الانتهازية المرفوضة والتى تأخذنا بعيدا عما اكتسبناه من ثورتنا المصرية الطاهرة من قيم وتقاليد تعلى مصلحة الوطن، وفى ذات الوقت تتخلى عن أى مكاسب سياسية زائلة. *** ورغم هذه الأجواء المشحونة بكل مشاعر التربص واصطياد الأخطاء من كل الأطراف حيال بعضها البعض فإن الأمل المرتقب كان يحدونا جميعا بأن تأتى لحظة الاستفتاء على دستورنا القادم لتذوب كل تلك الاختلافات وفتح صفحة جديدة نستشرف من خلالها المستقبل المأمول لمصرنا الغالية فى مثل هذه الظروف الدقيقة التى تمر بها، ولكن للأسف الشديد، حدث ما هو على العكس تماما، حيث وصلت بنا الأحداث المؤسفة إلى منعطف أكثر خطورة، حيث تأججت المشاعر السلبية لتصنع مشهدا مأساويا يتعارض مع ما كنا نتوقعه من لحظة بداية الاستقرار الذى انتظرناه طويلا.. ومن عناصر هذا المشهد السيىء والذى بدأت وقائعه الأكثر سوءا قبيل يوم الاستفتاء فى مرحلته الأولى والتى كنا لنظن أنه عرس ديمقراطى يحمل إلينا مزيدا من البهجة المفقودة بين الفصائل السياسية.. حيث بدأ الجميع يكيل الاتهامات البغيضة والتى وصلت فى معظمها إلى تهديدات صريحة بممارسة العنف حين صرح د.البرادعى بالتصدى العنيف. إذا لم يستجب نظام الحكم لمطالب جبهة الإنقاذ «الوطنى» التى يمثلها كرئيس لحرب الدستور المعارض ومعه التيار الشعبى ويمثله حمدين صباحى وأحزاب أخرى كالحزب المصرى الديمقراطى ويمثله د. محمد أبوالغار وشخصيات أخرى كالدكتور ممدوح حمزة وآخرين ممن يعارضون التيار الإسلامى كجماعة الإخوان المسلمين وحزب الوسط والأحزاب السلفية الأخرى.. وكان يمكن لكل هذه القوى السياسية أن تبحث عن نقاط التقاء على قيم الوطنية إنقاذا لما سوف يحدث فيما بعد من شقاق يهدد مستقبل الثورة المصرية ويحقق- بلاشك- ما يحاك ضد الثورة على أيدى فلول النظام السابق الذى مازال بعضهم يشغل مناصب كبرى ومؤثرة خلف أستار الحكم بعد الثورة. *** وذات الموقف الشائك المزدحم بالأحداث المؤسفة تتقاسمه مع القوى الليبرالية ما يطلق عليه التيار الإسلامى وكانت أحداث الاتحادية الدامية هى نقطة البداية التى اتخذها الإسلاميون ذريعة للرد، فكان حصار المحكمة الدستورية العليا ذلك التصرف الأهوج الذى استخدمته التيارات الأخرى سندا يؤكد أن الإسلاميين ضد سيادة القانون، رغم امتلاكهم للشرعية التى أقرتها صناديق الاقتراع برلمانيا ورئاسيا.. وتصاعدت الأحداث فى اتجاه أكثر خطورة حين ذهب الشيخ حازم مع بعض من أنصاره فى مشهد مخيف ومروّع نحو مدينة الإنتاج الإعلامى لعدة أيام كان نتاجها افتقاد التعاطف الشعبى السابق، حيث ظهر هذا الحصار ضد حرية التعبير الذى تكفله القوانين فى أى بلد ينشد ديمقراطية حقيقية.. وهنا جاءت الفرصة سانحة للتيارات المعارضة لتتهم التيار الإسلامى بالإرهاب والعدوانية.. وقد دعمت هذه الاتهامات وأضفت عليها مصداقية حين هوجم مقر حزب الوفد وصحيفته، وكذلك مقر التيار الشعبى واستهداف رئيسه حمدين صباحى على مرأى ومسمع من الجميع، فضلا عما وصل الجهات الأمنية من بلاغات تحمل هى الأخرى اتهامات تصم التيار الإسلامى بالقمع والإرهاب ومما زاد الطين بلة تلك التهديدات التى أطلقها أنصار أبوإسماعيل بمهاجمة قسم الدقى مما دعا وزارة الداخلية إلى تأمين مبنى القسم.. حتى أصبح ميدان الجلاء بالجيزة ثكنة عسكرية وكان ذلك تضخيما للواقعة.لم يفطن إليه أنصار أبو إسماعيل لتحدث أثرا سلبيا، وكأنما هؤلاء يؤكدون دعاوى الاتجاه السياسى المضاد، وبذلك فقد خسر الإسلاميون ما كان لهم من تجاوب فى الشارع المصرى، وللأسف فإن المواطن البسيط يعمم هذه المشاعر حيال كل جموع التيار الإسلامى قاطبة دون تمييز. *** ونخلص مما أوردناه من وقائع بحقيقة دامغة وهى تصاعد حالة العنف السياسى من كل التيارات على اختلاف أطيافها وطوائفها بما ينذر بخطر شديد يتهدد أمن الوطن ولنا العظة والعبرة فيماحدث من حصار للشيخ أحمد المحلاوى داخل مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية كدلالة واضحة على اقتسام كل القوى السياسية ما يرتكب من جرائم فى حق مصر. ورغم أن كل هذه الحوادث رهن التحقيق من الجهات المختصة والتى نأمل ألا تحفظ بتوجيه الاتهام إلى طرف ثالث مجهول، ورغم أنها طريقة سهلة لتعفى هذه الجهات مما تشعر به من حرج، فإن ذلك سوف يجعل هذه الموجة العارمة من الاحتقان والاستقطاب تتنامى حتى تسقط الدولة- لا قدر الله- وحينذاك لن يكون المتهم هو الطرف الثالث، إنما سوف نقف جميعا وبلا استثناء فى قفص الاتهام أمام التاريخ وقبله أمام الله الذى منحنا سبحانه ثورة رائعة لم نكن أهلا لها. كلمة أخيرة قاطعة.. إن مصر الغالية أمانة استودعها الله فى قلوبنا جميعا.. فهل نحن جديرون بحملها؟.. الأيام القادمة سوف تؤكد ذلك أو تنفيه نفيا قاطعا.. ولله الأمر من قبل ومن بعد..