يسهم التعليم والبحث العلمى معا بالقدر الأكبر فى بناء المجتمعات، فهو يزود القوى البشرية بالمعلومات والخبرات المتطلبة لإشباع الاحتياجات وتحقيق التقدم. وتتعدد الاحتياجات البشرية، فمنها الغذاء والكساء سواء كان مصدرهما نباتياً أو حيوانياً، ومنها وسائل الوقاية من الأمراض وتشخيصها وعلاجها، ومنها أيضًا وسائل الانتقال والاتصالات والمنشآت السكنية وغير السكنية ووسائل الترفيه، هذا فضلاً عن متطلبات البحث والابتكار والكشف عن آفاق معرفية غير معلومة بعد. إننا إذا ألقينا نظرة على حقيقة منظومة حياتنا فى مصر لوجدنا أننا لا نوفر بأيدينا إلا النذر اليسير من احتياجاتنا، ذلك أننا نعتمد على الاستيراد فى الحصول على معظم احتياجاتنا، وحتى هذا القليل النادر الذى نقوم بصناعته بأنفسنا فإننا نعتمد فى إنتاجه على آلات وتقنيات مستوردة من الخارج. وعلى سبيل المثال - وليس الحصر. أين نحن من صناعة موتورات السيارات وماكينات القطارات والطائرات والسفن؟ أين نحن من صناعة الموبايل والكمبيوتر والتليفزيون والراديو والميكروسكوب المستقطب والميكروسكوب ثلاثى الأبعاد، والتلسكوبات ومعدات التصوير الجوى وأعمال المساحة والأقمار الصناعية وأجهزه الاستشعار فى المطارات وأجهزة الأرصاد الجوية وأجهزة رصد الزلازل والميكروسكوبات الإلكترونية بأنواعها وأجهزة الأشعة بأنواعها وأجهزة الرنين المغناطيسى والمسح الذرى؟ أين نحن من صناعة أجهزة التكييف والأوناش والحفارات وماكينات الغزل والنسج وصناعة الساعات وآلات التسجيل وآلات التصوير وماكينات تصوير الأوراق والآلات الزراعية ومعدات وتقنيات الكشف عن البترول والغاز واستخراجهما؟ أين نحن من صناعة آلات الطباعة وماكينات سحب النقود من البنوك بالكروت، ومن آلات طباعة النقود الورقية بعلامتها التى تبدو بالأشعة فوق البنفسجية ؟ وأين نحن من إقامة محطات طاقة الرياح ومحطات الطاقة الشمسية ومحطات الرادار وإنشاء الشبكات الإلكترونية؟ أين نحن من صناعة الكيماويات والمستلزمات والمعدات المعملية التى تستخدم فى معامل البحوث العلمية والمعامل الطبية ؟ وأين نحن من التوصل إلى تركيب العقاقير التى تشفينا من الأمراض؟ إنه لشئ يدعو للإحباط حقا أن تنحصر سعادتنا فى تقديم عظيم التقدير لمن ينجح من أبنائنا فى اجتياز دورات تدريبية عن تشغيل أجهزة ومعدات وتقنيات أبدعها أبناء دول أخرى. إن الهوة قد اتسعت حقًا بين ما كانت عليه طموحاتنا منذ نحو نصف قرن وما آل إليه حالنا الآن، وها نحن أولاء نشخص بعيوننا منبهرين بالمواقع التى وصلت إليها دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والهند وإندونيسيا والصين وماليزيا وباكستان وإيران. إن علينا أن ندرك أن الجامعة هى الباب الحقيقى المؤدى إلى تقدم المجتمع من خلال كونها همزة وصل تربطنا ببعض عناصر التقدم العلمى فى الدول المتقدمة ، إن كل دول العالم تدرك دور الجامعة وتعطى لها خصوصية فى الهيكلة الوظيفية واستقلالية الرأى والأداء، ذلك أن الجامعة هى التى تستشرف المستقبل، ومنتجها هو هذه المنظومة المجتمعية الشاملة التى تضم الصيادلة والأطباء والمهندسين والعلميين والزراعيين والمعلمين ورجال الاقتصاد والإدارة والإعلام والقانون والحاسبات على مختلف تخصصاتهم ، وأساتذة الجامعة هم الذين يقومون بالإشراف على صفوة شبابنا الذين يسعون إلى نيل شهادات الماجستير والدكتوراه فى كل هذه العلوم وتخصصاتها الدقيقة المتنوعة ، هذا فضلا عن فعالياتهم المجتمعية الهادفة إلى تنوير المجتمع من خلال مؤلفاتهم و مساهماتهم فى وسائل الإعلام ومشاركاتهم فى فعاليات وأنشطة مؤسسات مجتمعية أخرى . إن تحقيق تقدم الجامعات ومراكز البحوث فى مصر وتحقيق تفاعلها الإيجابى الأمثل مع المجتمع يتلخص فى التبنى المخلص لعدد من الآليات، أولها دعم عظيم القدر للبعثات العلمية فى الجامعات ومراكز البحوث إلى الدول المتقدمة وفق أهداف محددة، وكذا إعادة تنشيط برامج استقدام الأساتذة الزائرين الأجانب. إن احتكاكنا العلمى المكثف بالدول المتقدمة فى مجال العلوم والتكنولوجيا لاغنى عنه لتحقيق أى تقدم منشود فى بلادنا، وسنظل ننحدر إذا استمرينا فى الاكتفاء فى الجامعة بتعليم بعضنا بعضًا. إن الجامعات ومراكز البحوث لها آلياتها الخاصة التى يتوجب علينا اتباعها إذا ما أردنا اللحاق بالعصر. وأخشى أن أقول إن الفجوة بين ما نحن عليه وما هو عليه الحال الآن فى الدول المتقدمة قد زاد اتساعها وأصبح من المتعذر أن تلتئم. وأرى أنه بدون تكثيف البعثات والمهمات العلمية وبرنامج الأساتذة الأجانب الزائرين ... تسقط الجامعة. أما الآلية الثانية فهى وجوب التوسع فى إنشاء المعامل البحثية فى الجامعات ومراكز البحوث وتزويدها باحتياجاتها من كيماويات وأجهزة ومستلزمات وقطع غيار، وإعداد كوادر فنية تقوم بإصلاح ما قد يعترى هذه الأجهزة من أعطال. إننا يجب أن نسعى لتحقيق أن يقوم كل باحث بأصابعه بالعمل المعملى وأن يستخدم الأجهزة المعملية بنفسه، ذلك أن ما يحدث الآن فى كثير من الأحوال – وهو يثير العجب والسخرية معًا – أن الباحث يسلم عيناته لمعمل مركزى يتولى المهام المعملية نظير مبلغ يدفعه الباحث، وبعد أيام يعود الباحث إلى المعمل المركزى لاستلام بضعة أوراق مدونة عليها النتائج، التى لا يعلم الباحث كيف أتت!! وهو مضطر إلى ذلك بسبب عدم توافر الأجهزة والمستلزمات فى موقع عمله. أما الآلية الثالثة فهى الكف عن تنظير المقررات التى تدرس فى الكليات العملية، ذلك أن بعضًا من المقررات – وفق اللائحة الرسمية – أصبحت تدرس نظريًا فى المحاضرات دون أن يلحق بها دراسة معملية، أو أن يدرس المقرر نظريًا على مستوى شبه معاصر بينما تجد الدراسة المعملية الملحقة به تنتمى إلى منتصف القرن العشرين، أى متخلفة بأكثر من نصف قرن من الزمان، ويرجع ذلك إلى قصور فى المعامل والإمكانات المعملية مما أدى إلى تخريج أجيال لا تعلم من حقيقة العلم المعاصر شيئًا. ومن جانب آخر علينا أن ندعم العلوم البينية مثل البيوفيزياء والإحصاء البيولوجى والجيوفيزياء والهندسة الطبية، كما علينا أن ندخل فى أطر العلوم الحديثة مثل النانوتكنولوجى والخلايا الجذعية والإشارات الخلوية والهندسة الوراثية . والآلية الرابعة تتطلب وضع أهداف قومية للبحث العلمى تتم مراجعتها وإعادة هيكلتها كل ست سنوات مثلاً. إن الذى يحدث الآن فى الجامعات هو أن الأبحاث يتم اختيار موضوعاتها عشوائيًا بلا ضابط وبلا رابط وبلا منظومة حاكمة. إننا بدون وضع أهداف نلتزم بها فى البحث العلمى إنما نُضيِّع وقتنا ونهدر طاقاتنا فى جهود عشوائية مبعثرة لن نجنى من ورائها شيئًا. وفى هذا الصدد اقترح على سبيل المثال أن يحدد لكل مجموعة من الأقسام العلمية المتناظرة فى كليات الجامعات على مستوى الجمهورية عددًا (نحو 20) من القضايا البحثية التى يغلب عليها أن تكون ذات صلة بقضايانا واحتياجاتنا المحلية، وعلى الراغب فى الترقية إلى الدرجة الأعلى أن يتناول واحدًا منها أو بعضًا منها، على أن يخصص لذلك جزء من الدرجة المرصودة لترقيات العاملين فى هذا المجال ، وليكن عشرين فى المائة من الدرجة الكلية. ومن الأهمية بمكان أن يشارك مسئولون تنفيذيون متخصصون فى وضع نقاط البحث المطلوب تناولها والتى يهدف معظمها – وليس كلها - تحقيق مصلحة مصرية فى المقام الأول، فإن استجاب الباحث لهذا التوجه حصل على الدرجة المرصودة لهذا البند فى التقييم، وإن لم يستجب فإنه سيفقد هذه الدرجة، ولكن ذلك لن يكون بالضرورة سببًا فى إخفاقه فى الترقى، إذ لا يزال بين يديه 80% من الدرجة الكلية، أى أن النظام المقترح لا يحقق إلزامًا على الباحث، ولكنه يحقق توجهًا مطلوبًا. ويستهدف هذا الطرح استفادة مصر من مئات الأبحاث التى يجريها الباحثون فى الجامعات ومراكز البحوث، بدلاً من أن تكون بحوثاً بلا عائد. ولضمان تحقيق ذلك فإنه من الواجب بعد مرور المدة المقررة لهذا البرنامج تحديد أوجه الاستفادة على أرض الواقع من نتائج هذه البحوث بحيث تتحقق فعلاً الاستفادة المجتمعية منها ولا تكون مجرد حبر على ورق كما يقولون. ويتم تقرير هذه الاستفادة بمشاركة جهات تنفيذية معنية. أضف إلى ذلك أننا يجب أن نعلى من تقييم البحث الذى يتعدد مؤلفوه، فهذا ليس نقيصه، وأنا لدى أبحاث أجنبية منشورة فى أرفع المجلات العالمية و يعتلى كل منها قائمة بأسماء العشرات وأحيانا المئات من الباحثين الذين اشتركوا معا فى إجراء بحث واحد، مع ملاحظة أن اسم رئيس الفريق البحثى غالبا ما يأتى فى ذيل هذه القائمة ! ومن المؤسف أننا فى اللجان العلمية التى تحكم الترقيات حاليًا نقدر البحث مفرد التأليف بأكثر مما نقدر البحث مشترك التأليف.