وتؤكد العديد من الدراسات على أهمية التعليم فى تحقيق التنافسية الدولية. فلم تعد الصواريخ والأساطيل هى المحدد الوحيد لقوة الأمم. وقد أسهم التنافس الاقتصادى الكوكبى فى زيادة وعى الدول بأهمية مساهمات التعليم فى تحقيق التميز الاقتصادى الاستراتيجى. ومن ثم ظهر إلى حيز الوجود مصطلحى "اقتصاد المعرفة" و"المجتمع القائم على المعرفة". ويحتل التعليم الجامعى ركن الزاوية فى المجتمع القائم على المعرفة، فالجامعات ليست فقط هى صانعة المعرفة، بل هى أيضًا أداة تشكيل العقول والمحرك لعمليات التنمية الاقتصادية. فالجامعات هى مصانع العلوم ومحركات النمو الاقتصادى المستدام فى العديد من دول العالم المتحضر. وفى المجتمعات القائمة على المعرفة تصبح الأفكار والقدرة على صياغتها وتطويرها هى المحدد الرئيس لنهضة الأمم بصورة تفوق أهمية المصانع التقليدية. ويتطلب تحقيق كل ذلك تأسيس شراكات بين الجامعات والشركات الصناعية لإنتاج بحوث علمية على مستوى عالمى. وفى هذا الصدد تقدم الشركات للجامعات الأموال اللازمة لتمويل البحث العلمى، وتوفر لها فرص الاستفادة من بنيتها التحتية الصناعية. وتسمح هذه الشراكات للعلماء والمهندسين بالانتقال بحرية بين المصانع والجامعات. وتوفر أيضًا فرصًا ممتازة لنقل التكنولوجيا بفعالية من الجامعة إلى الصناعة. إن تجسير الفجوة بين الصناعات عالية التكنولوجيا ذات المستوى العالمى الراقى وبين مؤسسات التعليم العالى أمر حتمى لنهضة الدول فى القرن الحادى والعشرين. ومن ثم، فلابد من تطوير جامعاتنا المصرية لتصبح بحق مراكز حقيقية وعالية الجودة للتميز العلمى. إننى أتساءل متى سوف تصبح جامعاتنا مصدرًا لإلهام الشركات الصناعية والتجارية؟ إن ضعف البنية التحتية الصناعية لغالبية جامعاتنا، وضعف الجودة البحثية لها يعنى أنها ما تزال تقوم بصورة رئيسة على التدريس. وفى ظل الصراعات بين بعض أعضاء هيئة التدريس، وانخفاض الروح المعنوية، وقلة الرواتب تتضاءل فرص بناء هذه الشراكات. ويتطلب تعديل هذه الأوضاع الخاطئة ربط التمويل الحكومى للجامعات بعدد براءات الاختراع، وعدد الشراكات مع المصانع، وعدد البحوث المنشورة فى الدوريات العالمية المرموقة. وليس هذا فحسب، بل لابد من تعديل قواعد التوظيف العتيقة بالجامعات المصرية؛ حيث تحرم هذه القواعد العتيقة التى أكل عليها الدهر وشرب مؤسساتنا التعليمية من الاستفادة من جهود أفضل العقول المصرية التى تعلمت بالخارج. وبالإضافة إلى هذا، فلابد من توفير التمويل المالى الكافى لإجراء البحوث العلمية الجديدة. إن على الدولة أن توفر لمؤسساتنا التعليمية الحوافز المادية والوظيفية التى تشجع الباحثين على إجراء البحوث العلمية الراقية، وأن تقدم لها خيارات متعددة للتنمية المهنية وللتعلم فى أرقى جامعات العالم. إن العديد من جامعاتنا ما تزال تدرس تخصصات عتيقة أصبحت الآن من كلاسيكيات العلم، ومن ثم فلابد من تدريس أحدث التطورات فى مجالات العلوم المختلفة. ولكى يتحقق ذلك يجب تحسين المعدات البحثية والتجهيزات المعملية، وتخفيف أعباء التدريس على العلماء والباحثين، وتقديم المنح الدراسية والبحثية للعلماء، وتوفير إجازات التفرغ للباحثين. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة الميزانيات الجامعية بصورة تتيح درجة أكبر من المرونة فى تخصيص أموال هذه الميزانية، وتسمح بتخصيص مبالغ أكثر للباحثين الأكثر تميزًا. ولن يمكن تحقيق ذلك فى ظل استراتيجيات التقويم العتيقة لأداء أعضاء هيئة التدريس. إن على جامعاتنا أن تطبق آليات التقويم الخارجى وآليات التقويم الدولى للعلماء والباحثين بها. إننى أتساءل متى تقوم جامعاتنا المصرية بوضع أجندة بحثية تتفق مع أرقى مستويات البحوث العالمية؟ ومتى نرى علماءنا فى الداخل يحصدون أكثر الجوائز العالمية رقيًا ورفعة؟ إن تحقيق ذلك يتطلب تعديل الهياكل الإدارية فى مؤسساتنا التعليمية، وصياغة خطط إستراتيجية لا تتغير يتغير الأشخاص. ويجب تشجيع الباحثين على إجراء البحوث التى تقوم على التخصصات البينية والتخصصات المتداخلة، ودراسة القضايا المجتمعية المعقدة. إن على صانعى السياسات فى مصر أن يدركوا أن الإنفاق على البحث العلمى هو استثمار طويل المدى. ويتطلب تعظيم العائد من هذا الاستثمار زيادة الكفاءة الداخلية والكفاءة الخارجية لمؤسساتنا التعليمية، وتطبيق آليات ضمان الجودة.