غيرة وغضب نبيل سيطرا على مساحة كبيرة من مشاعر المسلمين خلال الأسبوعين الأخيرين بسبب ما تعرض له رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الغيرة وهذا الغضب اللذان قادا تحركات البسطاء والعوام وبلغا بالبعض منهم إلى حد الاستعداد بالتضحية الجسدية وبذل الروح - وهى أغلى ما يملكه الإنسان - ليعلن عن موقفه تجاه الإساءة لنبيه، ونصرته ضد أعدائه الذين هم أعداء الدين. وبقدر ما كانت ردة فعل البسطاء من المسلمين قوية جاءت ردود أفعال مؤسسات وهيئات رسمية ودينية صادمة وخائبة، لا يدانيها فى الوصف إلا غياب الصفوة من نخب المجتمع وقادة رأيه وفكره، المشغولين بحراك المصالح الشخصية والسعى للسلطة. (1) .. منذ سنوات قليلة تصدى مؤرخ مسلم هندى يدعى بركات أحمد لوضع دراسة تاريخية نال عنها درجة الدكتوراة عنوانها: muhammad and the jews - a new examination ونشرها فى كتاب صدرت ترجمته فى الهيئة العامة للكتاب تحت عنوان:«محمد واليهود – نظرة جديدة». ومنذ طالعت ترجمة الرسالة الرائعة قبل عدة سنوات وأنا أتمنى أن أكتب عن الموضوع والمؤلف، وأنا أدعو كل مسلم غيور على دينه أن يقرأ هذا الكتاب، وأوصى بإقراره للدراسة فى مراحل التعليم العامة، وأن يتخذه رجال الدين مرجعا ليس فقط فى الموضوع الذى تصدى له وهو علاقة نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بيهود الحجاز بعد الهجرة إلى المدينة ، ولكن فى المنهج الذى اعتمد عليه د. بركات أحمد فى الفحص والنقد والتصحيح لمصادر وروايات السيرة المحمدية وبموضوعية مستلهمة فى الأساس من عالم الاجتماع والمؤرخ العربى المسلم الأشهر ابن خلدون الذى سبق علماء الغرب أنفسهم إلى وضع مناهج البحث التاريخى ونبه إلى الأخطاء التى يمكن أن يقع فيه المؤرخون من أئمة النقل المغالط فى الحكايات والوقائع بسبب اعتمادهم على مجرد النقل غثاً وسمين، ودون اللجوء لعرض هذه الحكايات والوقائع على أصولها وقياسها على ما يشبهها من حكايات وعدم تحكم النظر والبصيرة فى الأخبار التى ينقلون عنها لمجرد أنها وردت فى مخطوط قديم أو كتاب يوصف بأنه تاريخى. (2) ومن هذه الحكايات التى تتصل اتصالا مباشرا بعلاقة نبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم باليهود ماجاء فى كتب السيرة والمغازى (جمع غزوة) عن صدام الرسول صلى الله عليه وسلم بيهود قبيلة بنى قريظة الذين ساكنوا المسلمين فى يثرب «المدينة» فى تاريخ البعثة، وقد وقع هذا الصدام بعد أن خانت هذه القبيلة المسلمين والرسول وانضموا إلى الأحزاب التى اندفعت لحصار المدينة بغية الفتك بالمسلمين فيما اشتهر تاريخيا بغزوة الخندق، وكان ذلك فى العام السادس من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهددت المدينة من الجنوب والشمال فى هذه الغزوة إلى حد أن الأعداء كان يمكنهم القضاء على المسلمين قضاء مبرما ليس المحاربون منهم فقط ولكن المدنيين أيضا من النساء والرجال العجائز والصبيان الذين تخلفوا فى المدينة بينما خرج الرجال إلى جبهة القتال يحاربون أحزاب الكفر أمام الخندق الذى حفروه ليتحصنوا خلفه، ووصف القرآن جيوش الأحزاب ويهود بنى قريظة الذين حاصروا المدينة من الشمال والجنوب فى قوله تعالى:«إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم». ولخص القرآن حال المسلمين تجاه هذا الخطر فى آيتين من قوله تعالى: « وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون. هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا». لكن الضعفاء انتصروا وفكت قريش وغطفان وباقى الأحزاب الحصار بعد يأس ورحلوا، ولم يكن هناك من مهرب لبنى قريظة ، وقبل أن ينصرف المسلمون من جبهة القتال ناداهم الرسول إلى التوجه لمعركة أخرى فقال:«من يؤمن بالله ورسوله فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة» وكان النداء يعنى التحرك فورا لإنزال العقاب بهذا العدو الذى هدد المسلمين بالإبادة. واستدار جيش المسلمين متوجها لحصار بنى قريظة فى حصونهم واستمر الحصار لأكثر من أسبوعين وبعد مداولات ومشاورات وقبول اليهود حكما بينهم وبين المسلمين وهو سعد بن معاذ من قبيلة الأوس «موالى قريظة» فتحوا حصونهم واستسلموا. وتنتهى روايات المؤرخين المسلمين الأوائل لهذه الحكاية إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجال بنى قريظة المحاربين، وجاء فى سيرة ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إلى الرجال فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق وكان عددهم بين 600 إلى 900 رجل محارب، وتختلف الروايات حول من أصدر هذا الحكم الرهيب حيث تشير بعضها إلى أنه الرسول صلى الله عليه وسلم وتشير أخرى إلى سعد بن معاذ ، ويذكر د. بركات أنه جاء فى البخارى ومسلم حديثان متناقضان بشأن هذا الحكم بينما تضيف الروايات لسعد أنه أمر بتقسيم أموال بنى قريظة بين المسلمين وسبى ذراريهم ونسائهم!! (3) هذه الرواية التى تناثرت فى كتب كبار رواة السيرة المحمدية من ابن هشام إلى ابن عباس نقلا عن ابن اسحاق وتضاربت وتناقضت تفاصيلها لتنتهى إلى نتيجة واحدة فى كل الحالات يمكن تلخيصها فى أن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل ارتكبوا تلك المذبحة وحرب الإبادة ، ولقد رأيت بعينى وسمعت بأذنى على إحدى الشاشات منذ مدة من الوقت عددا من رجال الدين الأزهريين يدفعون هذا الاتهام باتهام مضاد يهاجمون فيه اليهود بما جاء فى سفر اللاويين المشهور بسفر الإبادة يخبر عن إبادة بنى إسرائيل لأعدائهم وقتلهم لكل مظاهر الحياة من شجر وطير وحيوان حين دخولهم فلسطين أول مرة بقيادة يوشع بن نون.. يقول هذا رجال الدين الإسلامى من حيث يدافعون فيجىء دفاعهم بمثابة إدانة وإقرار بأن رسولهم المشهود له من رب العالمين بالرحمة قد أمر بارتكاب مثل هذه المجزرة.. وحاشا لله أن يكون الرحمة المهداة جلادا أو حفار قبور، ويقبل مفكرو الأمة مثل هذه الرواية المتهافتة بينما ينقدها مفكرون وكتّاب من الغرب فيكتب ر.ا نيكلسون فى مؤلفه المعنون بتاريخ آداب العرب: «إن التمحيص التفصيلى يثبت أن قصة هذه المذبحة بأكملها قصة لا تقف على قدميها». وتأتى دراسة د. بركات أحمد لتعيد فحصها فتثبت بالأدلة العقلية والنقلية سقوطها تاريخيا وعقليا وواقعيا، وغاية القول إنها تحمل كل الملامح المألوفة فى أساطير وقصص المذابح الدينية وينتهى إلى تصحيح الواقعة كالآتى: الذين تم توقيع العقاب عليهم من بنى قريظة هم فقط زعماء المقاتلين والقادة ولا يمكن أن يزيدوا بأى حال من الأحوال على 16 إلى 17 شخصاً، وأن هذا العقاب يتوافق مع مبدأ القصاص العادل «العين بالعين والنفس بالنفس» ومبدأ للعيش المشترك اتفقت عليه عناصر الأمة الثلاثة (المهاجرون والأنصار واليهود) التى عاشت فى مدينة رسول الله منذ هاجر إليها وملخص هذا المبدأ أنه «لا يكسب كاسب إلا على نفسه». بقى أن نشير إلى أن الروايات أسندت تنفيذ حكم الإعدام فى رجال بنى قريظة إلى على بن أبى طالب والزبير بن العوام، ولكم أن تتخيلوا أن يقوم هذان الصحابيان بقتل هذا العدد الهائل من البشر فى ساعات قليلة دون أن يصابا بصدمة أو مرض نفسى يصاحبهما فيما تبقى من حياتهما أو حتى يشتكيان من تعب أو نصب أو تحكى حكاية عن سيف كسر أو نصل تلم أو أن هؤلاء القتلى الذين تخندقوا بين سكان المدينة تسببوا فى إصابة جوها بالأوبئة والأمراض.. أى عقل يمكن أن يقبله هذا؟. وتصحح الدراسة هذا الخطأ حين تشير إلى أن الذى تولى تنفيذ حكم الإعدام فى زعماء بنى قريظة هم موالوهم من القبائل المتحالفة كعادة تلك المجتمعات فى هذا التاريخ لذلك توزع الجناة على قبيلة الأوس وبطونها. (4) والخلاصة أن مؤرخى المسلمين الأوائل قد انتحلوا بعض الروايات انتحالا لتشكيل حكاياتهم التاريخية تشكيلا متميزا .. والقضية ليست مجرد تصحيح واقعة بنى قريظة ولكن القضية ما يمكن أن يسهم به رجال الإسلام فى تصحيح العلاقة بين الإسلام والإنسانية، والإسلام وأهل الكتاب، والإسلام واليهود بدلا من أن نترك أمر هذه العلاقة الأخيرة تحديدا للمستشرقين واليهود أنفسهم ليسرقوا الإسلام لصالح مشاريعهم الدعائية أو يشيعوا أن الإسلام طائفة أو مذهب من اليهودية وأن محمدا لم يأت بجديد أو ولدت رسالته من رحم الشريعة والقيم اليهودية ومثل هذه الأفكار التى نجح اليهود فى تمريرها خلال ثقافة الغرب المسيحى.