قبل سنوات كنت قد سألت فضيلة المفتى د.على جمعة فى حديث صحفى: لماذا لا يتصدى علماء المسلمين لتنقية كتب السيرة والتراث؟ فأجابنى حتى لا يصبح لدينا «أبوكريفا» وهى التسمية التى تطلق على الأسفار المخفية التى استبعدتها بعض الطوائف المسيحية من الكتاب المقدس.. واليوم أجدد السؤال وأضيف عليه: هل خشيتنا من وجود «أبوكريفا» فى التراث الإسلامى يقعدنا عن هذا الاجتهاد الذى هو فى الحقيقة جهاد؟.. الأمر يتعلق بهذا الفيلم الردىء الذى حمل إساءة إلى نبينا محمد «صلى الله عليه وسلم».. ولا بأس أن نغضب ونتظاهر أمام سفارة البلد الذى سمح بإزدراء ديننا وعقيدتنا وهو أمر تحرّمه القوانين والأعراف، ويجب ألا نركن صاغرين لتفسير أوتمرير الأمر بدعوى حرية الرأى والتعبير، وإلا فلندرج التعبير عن غضبنا أيضا بأى صورة من الصور تحت وصف حرية التعبير والرأى. (1) العام الماضى مع حلول الذكرى العاشرة لتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر تم استنفار أجهزة الأمن فى أمريكا وأوروبا بدعوى أن تنظيم القاعدة سوف يشن هجمات إرهابية على أهداف مدنية انتقاما لاغتيال أمريكا لزعيم وقائد التنظيم «أسامة بن لادن» قبل حلول الذكرى بشهور قليلة.. ولم يحدث شىء من هذا، والذى حدث هو إحياء مقصود لشحنات الغضب فى قلوب وأفئدة الأمريكيين والغربيين على الإسلام والمسلمين، هذه المهمة التى يتولى القيام بها الإعلام الغربى الذى يسيطر عليه اليهود والرأسمالية العالمية. وحسب نظرية نهاية التاريخ والسياسة التى يتبناها المحافظون الجدد الذين يسيطرون على صناعة القرار فى أمريكا وأوروبا فى العقدين الأخيرين تقريبا، لم يتبق من أعداء الرأسمالية - بعد هزيمة الشيوعية - إلا الإسلام إذا ما نجحت الرأسمالية فى دحره تسود على كل الأيديولوجيات (الغرب يتعامل مع الإسلام على أنه أيديولوجية من صنع البشر وليس دينا سماويا). وهذه الأيام وبعد مرور 11 عاما على تفجيرات سبتمبر التى أوقعت البغضاء الرهيبة تجاه المسلمين والعرب ليس فى الغرب فقط ولكن فى أنحاء كثيرة من العالم مازال إعلام ونخب العالم الإسلامى مستسلمين للرواية الرسمية الأمريكية حول هذه الكارثة، ومفادها أن بن لادن ورفاقه هم الذين نفذوا هجمات الحادى عشر من سبتمبر، ولم يحاول إعلامنا أو مفكرونا إخضاع هذه الرواية للفحص أو حتى مناقشتها ناهيك عن تبنى روايات أو سيناريوهات أخرى تتعلق بالتخطيط والتنفيذ لهذه الهجمات، ومن أسف أن الذى فعل هذا سياسيون وعلماء ومفكرون فى الغرب انتهوا تقريبا إلى القول باستحالة وقوع تلك الحوادث بالكيفية التى انتهت إليها التحقيقات الرسمية الأمريكية، وبالتالى لم يستبعدوا سيناريو المؤامرة فى إلصاق التهمة بالمسلمين العرب لإشعال الحرب ونقلها إلى منطقة الشرق الأوسط كجزء من مخططات السيطرة وتفكيك بلدانه، ويرد هؤلاء المفكرون على الذين يرفضون إسقاط نظرية المؤامرة على تلك الحوادث بأن الرواية الرسمية الأمريكية للأحداث هى فى حد ذاتها مؤامرة.. الذين قالوا هذا لا يدينون بالإسلام ولا ينتمون لبلاده ، أما نحن المسلمين فقد سرنا عميانا خلف الرواية الأمريكية ووسائل الإعلام التى يسيطر عليها اليهود والرأسمالية العالمية منذ وقوع الأحداث، وإلى اليوم مازالت دراسات وتقارير وملاحظات تصلنى وتصل آخرين عبر البريد الالكترونى وصفحات التواصل الاجتماعى «الفيس بوك» من مواقع وناشطين غربيين يجتهدون فى البحث عن حقيقة كارثة الحادى عشر من سبتمبر وتثير هذه التقارير المزيد من الشكوك حول الرواية المتداولة فى الشرق والغرب عنها، وقد يتحمس البعض مثلى فيشارك أصدقاءه هذه التقارير والشكوك أو بالكثير يكتب عنها مقالا مثل هذا الذى تقرأه وفى الحالتين فنحن نتحدث فى الأمر إلى أنفسنا ونواجه هواجسنا بينما نظل متهمين بارتكاب فعل الإرهاب أمام العالم. (2) وفى سياق قريب أتصور أن نفرا من أعداء الإسلام وأعداء مصر التى لم تسقط فى الربيع العربى اجتمعوا وسأل سائل منهم: ماذا يمكن أن يطيّر عقول مسلمى مصر ويفقدهم اتزانهم ويوقع الفتنة المرجوة بينهم وبين الأقباط ؟! فاقترح واحد منهم صناعة هذا الفيلم الرخيص وتضمينه ما يسىء إلى رمز الإسلام ومثاله البشرى محمد «صلى الله عليه وسلم»، المتآمرون الذين يدعون أنهم مصريون ينتمون إلى أقباط المهجر هم فى الحقيقة «شياطين»، مصريتهم وقبطيتهم زائفة، ملعونون من مسيح المحبة والسلام ملعونون فى كل كتاب، موريس وزقلمة وأبادير ومن اجتمع معهم تحت لواء المأفون تيرى جونز الذى سبق له أن أقام حفلات شيطانية لتمزيق المصحف كتاب المسلمين المقدس ليس فقط إظهارا للعداوة والبغضاء ولكن لإغاظة المسلمين، والدفع بهم هذه المرة للاصطدام بالغرب ومصالحه فى بلادهم للإبقاء على نيران الحرب الصليبية مشتعلة، هذه الحرب التى دشنها غبى أمريكا السابق جورج بوش وحصدت مئات الآلاف من الأرواح ومثلها من المصابين والمشوهين وأنفقت عليها ثروات كان يمكن أن تعالج مجاعات وتتوقى كوارث بيئية تضرب فقراء العالم من البلدان والبشر. (3) حسبنا الله ونعم الوكيل.. وحسبنا أنفسنا مالنا نحن المسلمين نسعى فى ملكوت الله كالأنعام أو أضل سبيلا، إن أصعب ما صادفته فى هذه الأزمة جاءنى من تعليقات القراء على المواقع الالكترونية التى غطت ما يتعلق بالفيلم والأحداث التى تداعت على أثره، حيث قرأت تعليقا أو أكثر يحمل معنى أن بعض الإساءات التى حملها الفيلم للرسول صلى الله عليه وسلم هى تجسيد درامى لافتراءات وأكاذيب وخزعبلات موجودة بالفعل فى بعض كتب السيرة والتراث، أنا لم أشاهد الفيلم لكن الذين ذكروا هذا بالتأكيد قد شاهدوا الفيلم واطلعوا على ما جاء فى هذه الكتب الصفراء، التى نادى بتنقيتها مرارا وتكرارا أهل العلم الغيورون على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه القضية تثار بين الحين والآخر فى المجتمعات الإسلامية لكنها فى الغالب لا تتخطى عتبات النخب وإذا ما وصلت عن طريق الإعلام مثلا إلى أنصاف المثقفين ممن يدعون الغيرة على الرسول عن جهالة ينقلب الأمر إلى معركة ويتبارى هؤلاء المتفيقهون فى إثارة العامة فيوقفون التقدم خطوة فى هذا الطريق. (4) الذين اطلعوا على تاريخ اليهود فى أوروبا المسيحية منذ القرون الوسطى وحتى الثلث قبل الأخير من القرن العشرين تقريبا يعرفون أن الشخصية اليهودية كانت موسومة فى ذهنية الشعوب الأوروبية بالشيطنة، فما إن يأتى ذكر اليهودى حتى يحضر فى ذهن الأوروبى صورة شخص حقير معقوف الأنف يمتهن أقذر المهن مثل الربا والدعارة، وهو سليل قتلة المسيح الرب «حسب ما يعتقد المسيحيون» إلى آخر هذه الصفات التى كرسها شكسبير فى شخصية التاجر اليهودى شيلوك فى مسرحيته الشهيرة تاجر البندقية. وفى هذا الزمن كانت الشعوب والحكومات الأوروبية تطارد اليهود وتدفعهم للهروب عبر الدول والحدود فى الوقت الذى كانوا ينعمون فيه على الأقل بالأمان فى الشرق الإسلامى وبلاد العرب، بينما استمرت الكراهية تلاحقهم فى الغرب ويتم التعبير عنها بصورة تدنيس قبورهم وانتهاك حرمة موتاهم، ومازال أتباع اليمين الأوروبى المتطرف يطاردون اليهود فينبشون قبورهم أو يرسمون عليها علامة النازية تعبيرا عن تمنى إهلاكهم بالحرق كما كان يفعل هتلر بهم، لكن انحسرت هذه الممارسات فى أفراد قلائل وقلت كثيرا فى مرات حدوثها بل على العكس فقد تغير «الاستريوتيب» للشخصية اليهودية كثيرا فى ذهنية الغربيين خاصة فى أمريكا حتى صار اليهودى هو هذا الشخص السوبر الذى تصوره أفلام هوليوود على أنه منقذ أمريكا والأرض من الكائنات الخرافية التى تهاجمها وتهدد حضارة الرجل الأبيض وللأسف فقد انتقل النموذج المشيطن من اليهودى إلى المسلم وصار الإسلام هو الخطر الذى يهدد حضارة الغربى وسلامه وأمنه.. كم من الجهد والمال أنفقه أعداء الإسلام ليصلوا إلى هذه النتيجة؟.. الحقيقة إن المسلمين يخرجون من التاريخ وإذا كان أعداؤهم يسعون بدأب شديد لإلحاق الضرر بهم فإنهم يضرون أنفسهم أكثر.. فكروا قليلا وسوف تكتشفون أننا نغضب لعقيدتنا أو لرسولنا بحناجرنا أو بتخميش وجوهنا فقط فلا ننتصر لهما أو لأنفسنا ونحن أصحاب الرسالة لأننا أضعف كثيرا من أعدائنا الذين ملكوا الدنيا بأسبابها وهى متاحة للمؤمن والكافر.