وسط كل مظاهر الفوضى والانفلات الأمنى والأخلاقى ووسط عشرات الأزمات والمشكلات الحياتية، ورغم بداية التحرك الحكومى الجاد وإن بدا بطيئا للتصدى لتلك المظاهر والمشكلات والأزمات والذى يعنى أن هيبة الدولة سوف تعود يوماً ما.. عساه يكون قريباً.. لفرض الأمن وإعادة الاستقرار، إلا أنه ومن بين كل تلك الأزمات فإن ثمة أزمة بدا مؤكدا أنها تستعصى على الحل وسوف تظل مشكلة مصرية مزمنة.. إنها مشكلة «الزبالة»! إن مشاهد أكوام وتلال «الزبالة» المكدّسة فى عرض الشوارع والميادين فى كافة المناطق.. الراقية والشعبية على حد سواء.. هى المشكلة الكارثية الأكبر، والأكثر إهانة وتشويهاً لوجه مصر الحضارى، وهى الخطر الجسيم على البيئة وصحة وحياة المصريين، ثم إنها قبل ذلك كله تبقى عاراً وطنياً لا يليق بهذا البلد ولا تمحوه الأعذار والمبررات. الأمر المؤكد والمؤسف هو أن تعامل الدولة والأجهزة الحكومية مع هذه الكارثة الحضارية والصحية ووفقاً للآليات الحالية لن يسفر عن أى حل حقيقى رغم التصريحات العنترية للمسئولين المعنيين والتى لا تزيد على مسكّنات لتحذير المواطنين بينما مشاهد تلال «الزبالة» تتحدّى الجميع. الأمر المؤكد أيضاً هو أن هذه الأزمة الكارثية سوف تظل مستعصية على الحل حتى لو أطلق رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى ألف حملة وحملة تحت شعار وطن نظيف مثلما فعل قبل أسابيع. ثم هل مهمة نظافة الشوارع وإزالة «الزبالة» تستدعى تدّخل رئيس الجمهورية شخصياً؟!، هل هذه المهمة من بين مهام الرئاسة؟!، ماذا يفعل المحافظون الذين أصبحوا محافظين على بقاء الزبالة؟!، وماذا يفعل الذين استحقوا وصف «الأموات رؤساء الأحياء»؟! أما تلك الهيئة المسماة بهيئة النظافة والتجميل فقد تحوّلت باسمها وجسمها إلى «نكتة» سخيفة واسماً على غير مسمى، فلا هى نظّفت ولا جمّلت ولا حتى تجمّلت، بل صارت هيئة للقذارة والزبالة والقُبح! ??? غير أن دواعى الموضوعية تقتضى فى نفس الوقت إيضاحاً مهماً باعتبار أنه لا المحافظين ولا رؤساء الأحياء بل ولا هيئة النظافة والتجميل مسئولون مسئولية كاملة عن هذه الكارثة البيئية والصحية، إذ أنهم وحسبما أكد وأوضح لى رئيس أحد الأحياء ومعه أحد مسئولى هيئة النظافة.. لا سلطة لديهم تتيح لهم التصدى لحل هذه المشكلة! هذا هو اللغز فى هذه الأزمة والذى تجاهلت الحكومات المتعاقبة بما فيها حكومة قنديل الحالية كشفه لمعرفة السبب الحقيقى فى تفاقم الأزمة واستعصائها على الحل! ??? إن السبب الحقيقى فى هذه الأزمة الكارثية هو ما يمكن وصفها بالجريمة التى ارتكبها محافظ القاهرة الأسبق الدكتور عبد الرحيم شحاتة برعاية الدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء الأسبق فى النظام السابق، وهى جريمة تدين ذلك المحافظ سواء ارتكبها بإرادته أو تحت إكراه من النظام، إذ أنه انبرى للدفاع عنها وتبريرها، ولقد وصفته فى غير هذا المكان فى ذلك الوقت بأنه يكذب وذلك تعليقاً على حديث تليفزيونى له.. كان حافلاً بالمغالطات والأكاذيب. أما الجريمة فكانت التعاقد مع شركات أجنبية أوروبية وإسناد مهمة نظافة القاهرة وجمع القمامة من المنازل إليها، ثم جرى تعميم التجربة فى الجيزة والإسكندرية مقابل مئات الملايين من الجنيهات وفى رواية مقابل مليار جنيه سنويا!! وبصرف النظر عما تردد من روايات عن عمولات ورشاوى دفعتها تلك الشركات للنظام السابق، وسواء صحت تلك الروايات أو كانت غير صحيحة، فإن ما جرى كان جريمة كلّفت مصر مئات الملايين بل مليارات الجنيهات طوال السنوات الأخيرة ومنذ أن تم التعاقد مع تلك الشركات، بقدر ما كانت إهانة لمصر والتى بدت وكأنها عاجزة عن تنظيف شوارعها والتخلص من زبالتها! ??? هذه الشركات الأوروبية قامت وتقوم بأكبر عملية نصب دولية على الدولة المصرية.. معتمدة على عقدة «الخواجة» التاريخية لدى المصريين، فهى لا تفعل شيئاً سوى الإدارة ومجموعة من سيارات القمامة، بينما تسند مهمة كنس الشوارع وجمع القمامة من المنازل إلى مقاولين ومتعهدين مصريين من الباطن مقابل فتات من المليارات التى حصلت عليها من دم الشعب المصرى! المفاجأة المؤسفة والكارثية هى أن دور هيئة النظافة والتجميل بكل مديريها وموظفيها ومهندسيها وبما يحصلون عليه من رواتب كبيرة وحوافز أكبر.. لا يزيد على متابعة عمل هذه الشركات دون أن يكون لها أية سلطة عليها، وكل ما تملكه من سلطة لا يتجاوز خصم مائة جنيه فقط يومياً عن أى تقصير فى النظافة وإزالة الزبالة!!! الأكثر أسفاً هو ما قاله لى أحد مسئولى هيئة النظافة هذه، وهو أنه «بيبوس إيدين» المسئولين والعمال المصريين فى هذه الشركات الأجنبية لكى يزيلوا أكوام الزبالة وذلك فقط عندما تأتى إليه شكوى من المواطنين!! المفاجأة المؤسفة أيضاً هى أن رؤساء الأحياء وحسبما قال لى أحدهم لا يملكون سلطة حقيقية على فروع هيئة النظافة التى تتابع عمل الشركات الأجنبية و«تبوس إيديها»!! ??? خلاصة القول فى هذه الدائرة المفرغة هى أن مصر تهدر مليار جنيه سنوياً لشركات تمارس النصب وتنشر القذارة بدلاً من النظافة، وأن هيئة النظافة التى يدفع الشعب رواتب موظفيها الكبار والصغار ليست مسئولة عن النظافة وهى بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب من كارثة الزبالة، بينما رؤساء الأحياء مغلولة أيديهم عن أى فعل.. والمسألة كلها عبث فى عبث وهى إحدى سوءات منظومة فساد النظام السابق. ??? والسؤال: أليس فى العقود المبرمة مع تلك الشركات أى نص على معاقبتها أو فسخ التعاقد معها فى حالة تقصيرها؟، الإجابة.. نعم.. بتوقيع غرامة مالية قيمتها مائة جنيه يومياً عن كل منطقة! بينما لا يجوز فسخ التعاقد!! السؤال الأهم: لماذا لا يجوز فسخ التعاقد وطرد هذه الشركات؟ الإجابة بل المفاجأة.. هى أنه فى حالة فسخ التعاقد فإن الحكومة المصرية تكون ملزمة بدفع غرامة مالية كبيرة تقدر بمليار جنيه لكل شركة وفقاً للشرط الجزائى المنصوص عليه فى التعاقدات! حتى فى حالة لجوء الحكومة لفسخ التعاقد والامتناع عن دفع الغرامة وتنفيذ الشرط الجزائى، فإن هذه الشركات سوف تلجأ للتحكيم الدولى وفقاً لنصوص التعاقدات معها والذى سوف يحكم لها ضد مصر! وسؤال آخر: هل كانت الحكومة المصرية فى غفلة وهى توافق على هذا الشرط الجزائى المجحف دون أن يقابله شرط مواز على الشركات؟.. الإجابة وعلى لسان أحد المسئولين وبالحرف الواحد هى أن الدكتور عاطف عبيد هو الذى صاغ هذه التعاقدات لصالح الشركات وعلى حساب مصر.. ولا تعليق سوى أن من باع أصول مصر بأبخس الأثمان ليس مستغرباً منه أن يترك الزبالة لشعبها! ??? إن على حكومة الدكتور هشام قنديل الحالية أن تفتح تحقيقاً جاداً فى ملابسات التعاقد مع تلك الشركات الأجنبية، بحيث لا يفلت مرتكبو هذه الجريمة فى النظام السابق من الإحالة إلى المحاكمة الجنائية. ثم إن على الحكومة أيضاً الإسراع بطرد تلك الشركات فوراً وفسخ التعاقدات معها حتى لو اضطرت لدفع الغرامة المالية وتنفيذ الشرط الجزائى، فذلك أخف الأضرار، وإن كان من اليسير جداً الذهاب إلى التحكيم الدولى وتوثيق تقصير هذه الشركات بصور من الواقع لإثبات إهمالها ومن ثم الإفلات من ذلك الشرط الجزائى المجحف. ??? ويبقى فى ضوء ما سبق أنه لا حل لأزمة «الزبالة» الكارثية وإزالة هذا العار الوطنى سوى بالعودة إلى نظام البلديات للقيام بهذه المهمة وحيث كانت تؤديها سابقاً على الوجه الأكمل. ??? إن الأسوأ فى هذه الأزمة هو أن يعتاد المصريون مشاهد الزبالة والقبح وتصير مشهداً من مشاهد الطبيعة فى مصر، وذلك عار وطنى أيضاً. n