من حوار الطرشان الذى تبادلناه فى الفترة السابقة بداية من 11 فبراير 2011 إلى حوار الخرفَاَن (من الخرف) الذى انطلق يوم الأحد 12 أغسطس الماضى متجاوزا العقل ومتطايرا كالشرر فى كل اتجاه يكشف عن جهل المتحدثين تارة ، أو يعكس شعور الكراهية لأحد الطرفين الذى أصدر القرارات أو الذى طالته تارة أخرى.. والكلام الآتى يدور حول البحث عن تفسيرات لقرارات الرئيس مرسى الأخيرة المتعلقة بالمجلس العسكرى الذى نجحت آلة التحريض والدعاية السوداء - عن عمد - أن تخلط فى أذهان بعض المصريين بين هذا المجلس والجيش المصرى وتجعل منه امتدادا لفترات الحكم السابقة منذ ثورة يوليو 52 وحتى عهد مبارك، وزيادة فى التشويه نجح المحرضون فى تمرير تسمية «حكم العسكر» على الفترة الانتقالية وربطوها بالتاريخ الممتد لما يقرب من الستين عاما التى حكم فيها مصر رؤساء قادمون من المؤسسة العسكرية، وما كان هذا الوصف وهذه التسمية الخبيثة إلا استدعاء فى أذهان الشعب لنماذج حكم عصابات فاسدة أشهرها كان فى أمريكا اللاتينية فيما عرف تحديدا بجمهوريات الموز، وذهب البعض لأكثر من هذا فخلط عن عمد بين المجلس العسكرى والجيش متجاهلين أيضا عن عمد الفرق الكبير بين الأفراد والمؤسسة. (1) لم يكن يعرف عامة المصريين الشىء الكثير عن المجلس العسكرى، أو تشكيله أو طبيعة مهامه أو أسماء أفراده أو عددهم، وبالكاد كان يعرف قليلون من الشعب أن هذا الكيان الغامض المهول يمثل المؤسسة العسكرية المصرية ويرأسه رئيس البلاد ولا يجتمع هذا المجلس بكامل هيئته وتشكيله اجتماعا رسميا إلا لوقوع حدث جلل يقترب من مناقشة قرارات تتعلق بمصير البلاد مثل الحرب، ولما كانت إزاحة الرئيس السابق مبارك عن السلطة أو إجباره على اتخاذ هذا القرار نزولا على إرادة شعبية ساحقة وتجنيبا لدخول مصر فى سيناريو كارثى حدثا جللا فقد اجتمع المجلس العسكرى وأعلن أنه فى حالة انعقاد مستمر دون رئيس الجمهورية، ولم يكن يعنى هذا إلا إعلان انحياز أعضاء المجلس ومن وراءهم الجيش إلى مطلب الثوار الرئيسى: رحيل مبارك. ولم تمض ساعات على الاجتماع الأول والبيان الأول للمجلس إلا وقد خرج على الناس نائب الرئيس عمر سليمان ليعلن تخلى مبارك عن سلطاته ونقلها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفى هذا التوقيت كان بالفعل الجيش حاضرا فى الشارع بجنوده وآلياته، وكان قد التحم بالثوار وأعلن منذ اللحظة الأولى أنه انحاز للشعب، لكن قرار مبارك كان يعنى شيئا آخر وهو أن يتصدى قادة الجيش لحكم البلاد فى غياب الرئيس والمؤسسات وانهيار الشرطة مؤسسة الأمن الداخلى وحضور الناس فى الشارع واختلاط الشرفاء من المواطنين بالمجرمين بعد فتح السجون ومهاجمة أقسام البوليس وسرقة السلاح الذى تحتويه وتفريغها من نزلائها المطلوبين للعدالة وانتشار الحرائق وأعمال السلب والنهب وما أدت إليه من فقد الإحساس العام بالأمن وزيادة الشعور بالخوف، وفى هذه الظروف الصعبة لم يهدئ من روع الناس إلا مشهد المركبات العسكرية وجنود الجيش الذين انتشروا فى بعض الشوارع والميادين بالشدّة العسكرية وصوت طلقات الرصاص التى كانت تصدر عن أسلحتهم تشق صمت الليالى المخيفة لتعلن عن حضورهم أو مطارداتهم للصوص والهاربين من السجون. كانت هذه المشاهد تحدث أمام العيون لكن مشاهد أخرى كانت خافية عن الناس تتعلق بالاختراق الخارجى للجبهة المصرية الداخلية مثل انتشار عشرات وربما مئات العملاء والجواسيس والمحرضين المتصلين مباشرة بأجهزة مخابرات دول أجنبية فى ميادين الثورة بين المصريين يتحدث بعضهم العربية كأهلها، أكثرهم دخل البلاد فى الفترة السابقة مباشرة على الثورة والأيام الأولى تحت ستار الهويات الدبلوماسية والعمل الإعلامى يستكملون على الأرض مخططا سابقا كان قد بدأ تنفيذه قبل الثورة بسنوات من خلال أعمال الدبلوماسية الأمريكية والغربية العامة ومنظمات المجتمع المدنى الأجنبية والمنظمات الأممية ووسائل الإعلام.. على الإجمال كان أمن مصر مهددا بشدة من الداخل والخارج وكان هناك دفع كبير لإسقاط مؤسسات الدولة وإدخال مصر فى فوضى فإن لم تكن فوضى فحرب أهلية تنتهى بتنفيذ مخطط تقسيمها.. كان هناك أيضا مخططات تتعلق مباشرة بالجيش المصرى، الجيش النظامى الوحيد فى المنطقة العربية الذى يمثل رقما ذا قيمة فى ميزان القوى العسكرية وذا تأثير فى إدارة الصراع السياسى فى منطقة الشرق الأوسط، ويمثل خطرا حقيقيا على إسرائيل بعقيدته القتالية، هذه الحقائق التى تم تغييبها عن الشعب واستبدالها بكذبة هائلة هى أن العسكر كانوا يحكموننا فى السنوات الستين الماضية ومازالوا طامعين فى السلطة من خلال امتدادهم فى المجلس العسكرى، وغاب عن الذين استقبلوا هذه الكذبة بالتصديق أن المجلس العسكرى ليس كتلة مصمتة أو شخصا واحدا يرأس سلاحا واحدا أو أن أعضاء المجلس العسكرى لا يدركون أنهم ليسوا أصحاب الثورة وأن نصيبهم فيها أنهم قاموا بحمايتها وأن المدنيين هم الذين قاموا وطلبوا الديمقراطية وبالتالى فقد تغيرت قواعد اللعبة السياسية وعملية تداول السلطة، وأن الشعب لن يسمح بالعودة للوراء مرة أخرى، لكن ثمة أخطاء وقع فيها المجلس العسكرى لاشك ناتجة عن الظرف التاريخى الذى تصدى فيه المجلس لحكم البلاد وعبر الرئيس مرسى عن ذلك فى أعقاب قراراته المتعلقة بالمشير والفريق بقوله إن المرحلة الانتقالية كانت شديدة التعقيد، وإن عملية اتخاذ القرار فيها كانت بها الكثير من الأخطاء. (2) ومن الصراع على الأرض إلى الصراع على السلطة عقب سقوط مبارك، فقد وجد المجلس العسكرى (الكيان كله بكامل أفراده وليس المشير والفريق فقط) فجأة نفسه حكما بين القوى السياسية المتشاكسة تطلب أكبر نصيب من مساحة السلطة، والكل يهرول نحو وضع العربة على الطريق الذى يريدها أن تسير عليه: الإسلاميون الأكثر حضورا وتنظيما وسيطرة على الشارع والأكثر ثقة أيضا، والمجموعات الليبرالية الأكثر شراسة وصخبا واندفاعا نحو اختطاف السلطة لتنصيب أميرهم رمز الدولة المدنية وحضارة العصر العولمى، وانضم إليهم اليسار الليبرالى وبقايا الشيوعيين الداعين بتبجح لإسقاط الدولة، كان هناك أيضا الأحزاب الورقية التى شاركت مبارك لعبة إفساد الديمقراطية لسنوات طويلة خلت ووجوه جديدة طامحة للعب دور على الساحة.. كيف يتعامل المجلس العسكرى مع كل هذه القوى فلا يسمح لأحدها أن تسيطر على الحكم أو يكون لها الغلبة دون تفويض ديمقراطى من الشعب فى ذات الوقت الذى يخرج بالبلاد من منطقة الخطر؟!. كانت هذه هى المعادلة الضاغطة التى يجب أن يحققها المجلس العسكرى، زاد من وطأتها التحريض الداخلى ضده من بعض القوى السياسية والأفراد لينسحب سريعا من الساحة السياسية ويتركها فارغة ليملأها من تصور أن له القدرة على ذلك دون انتظار لانتخابات تأتى بفصيل غيره للحكم، يساند التحريض الداخلى هذا دعايات من الخارج فى نفس الاتجاه لإبعاد المؤسسة العسكرية عن لعب دور سياسى فى مصر يعطل عملية تداول السلطة كما يريدها الغرب أو خلق ديكتاتوريات جديدة، بعد أن نجح الربيع العربى فى الإطاحة بالديكتاتوريات القديمة، وهذه قصة أخرى.. الشاهد أن المجلس العسكرى وعلى رأسه المشير والفريق لم يكن يطمع فى استلاب السلطة، وقد كتبت ورددت هذا مرارا فى السابق عن ثقة كانت تتأكد كلما دفع المجلس العسكرى خطوة لتفعيل آليات الديمقراطية المتمثلة فى الانتخابات وحرصه الشديد على أن تتم هذه الانتخابات بنزاهة وشفافية كبيرة، بينما الطامع فى الحكم لا يفعل ذلك لكن يملى ويفرض إملاءات فوقية ولا يسمح بسؤال الشعب رأيه أو صعود قوى سياسية أخرى لمشاركته السلطة منذ البداية.. إلى هنا والأمور تبدو جيدة فما هو الخطأ الذى وقع فيه المجلس العسكرى؟! (3) الخطأ هو أن المجلس العسكرى - وعلى رأسه المشير والفريق - أراد أن يستمر فى لعب دور الحكم بين القوى السياسية وتحديدا بين الإخوان وخصومهم إلى أطول وقت ممكن، أو على الأقل إلى مابعد الانتهاء من وضع الدستور الجديد والتحديد النهائى لشكل الدولة وسلطات الرئيس فيها، خطأ آخر وقع فيه أعضاء المجلس وهو الخلط ما بين سلطات الرئيس الدستورية وانتمائه لجماعة الإخوان فى غير استيعاب من المجلس للقواعد الجديدة والتى أهمها أن الشعب هو الذى اختار مرسى رئيسا مع علمه السابق بانتمائه وهذا أمر مسموح به فى الديمقراطيات وكان واردا أن تأتى إلينا الانتخابات برئيس اشتراكى أو ناصرى أو ليبرالى أو يحدث هذا فى المستقبل فهل ساعتها يتدخل المجلس العسكرى أو غيره ليشاركه الحكم حتى لا يتيح لفصيله ألا يسود؟!. باختصار لم يستطع المجلس أن يتخلص فى الوقت المناسب من دور الحكم الذى يتطلب منه أن يسيطر على جزء من السلطة التنفيذية والتشريعية، وأغراه بالاستمرار الواقع المتمثل فى أحكام القضاء التى غيبت دور البرلمان والأصوات العالية التى تستحثه على الاستمرار فى لعب هذا الدور كراهية فى الإخوان. (4) قرارات الرئيس مرسى وضعت إذا حداً فاصلا لتردد المشير والفريق فى المغادرة ، ولا أتصور أن هناك أسراراً أخرى حقيقية تقف خلف هذه القرارات إلا أسرار النفوس وحكايات التمنى وعلمها عند الله، وفى رأيى أن الأمور سوف تمضى بهدوء لأن غالبية الشعب المصرى سوف يغلّب مصلحة الوطن على أى مصلحة أخرى ولأن مدنيين كثيرين يريدون أن يخرج العسكريون من لعبة السياسة، لكن الهدوء لا يعنى الرضا الكامل من كافة أطياف الشعب المصرى على تلك القرارات لأن كثيرين لم يستوعبوا بعد أن قواعد اللعبة تغيرت وأن الديمقراطية لن تسمح لفصيل واحد أن يسيطر على الحكم إلى الأبد، وسوف تثبت أقرب انتخابات ما أقوله هنا، ووضوح الأمر يتسق مع المثل الدارج ونصه:«الذى لايرى من الغربال أعمى».