إن أسوأ بل أخطر ما تشهده الأزمة السياسية الراهنة والتى تنذر بصدام بين رئيس الجمهورية المنتخب بإرادة شعبية حُرة وبين المجلس العسكرى الذى كان بالأمر الواقع يتولى الإدارة التأسيسية خلال المرحلة الانتقالية.. هو الزج بالقضاء بأعلى سلطة فيه ممثلة فى المحكمة الدستورية فى هذه الأزمة، ومن ثم يكون طرفاً فى صدام أو فى صراع سياسى على السلطة.لقد جاء حكم المحكمة الدستورية العليا يوم الثلاثاء الماضى بوقف تنفيذ قرار الرئيس محمد مرسى بعودة مجلس الشعب للانعقاد، بعد أن نظرت فى الدعاوى المرفوعة إليها فى هذا الشأن.. جاء مثيراً لكثير من علامات الاستفهام، إذ أن المستقر فى قضاء هذه المحكمة العليا ووفقاً لقانونها أنها مختصة فقط بالفصل فى دستورية القوانين واللوائح وبعد إحالة النزاع بشأنها إليها من المحاكم المدنية ومحاكم القضاء الإدارى. ومن المستقر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا ووفقاً لقانونها أنها ليست مختصة بالنظر فى مثل تلك الدعاوى التى قدمت إليها بشأن تنفيذ قرار رئيس الجمهورية، وهو المسلك الذى وصفه الفقيه الدستورى الكبير ثروت بدوى بالعبث. ولذا فإن المحكمة الدستورية (بتشكيلها الحالى) بقبولها النظر والحكم فى الدعاوى المرفوعة إليها ضد قرار رئيس الجمهورية تكون قد أغفلت بل خالفت ما استقر عليها قضاؤها وقانونها بعدم اختصاصها ولائياً بالنظر فى قرارات رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية باعتبارها من أعمال السيادة. ففى واقعة مشابهة تماماً وعندما قضت المحكمة الدستورية عام 1990 بعدم دستورية بعض مواد قانون انتخابات مجلس الشعب التى جرت فى عام 1987، وعندما تأخر الرئيس السابق حسنى مبارك فى تنفيذ الحكم عدة أشهر حتى دعا لاستفتاء على حل المجلس، فإن هذه المحكمة ذاتها رفضت قبول الدعوى المقامة ضد الرئيس السابق لتجاهله تنفيذ حكم حل المجلس، وقضت بأنها غير مختصة بالنظر فى قرارات رئيس الجمهورية باعتبارها من أعمال السيادة التى تخرج عن ولاية القضاء، وقالت فى أسباب حكمها إن الاعتبارات السياسية تبرّر تخويل السلطة التنفيذية سلطة تقديرية واسعة لصالح الوطن دون تعقيب من القضاء. وإذا كان حكم المحكمة الدستورية الصادر يوم الثلاثاء الماضى مثيراً لجدل قانونى بين فقهاء القانون والدستور والذين انقسموا إلى فريقين، فإن مسلك المستشار أحمد الزند رئيس نادى القضاة الذى اتهم رئيس الجمهورية بالخيانة بدا مثيراً للاستياء لتطاوله على مقام الرئاسة بهذا الاتهام الخطير فى غير موضعه، بقدر ما بدا مسيئاً للقضاة والقضاء، وهو مسلك لا يليق بقاض أن ينزلق إليه، إذ أفقده بكل تأكيد صلاحياته ليجلس على منصة القضاء والعدالة. أما الجدل القانونى الواسع والدائر فى المشهد السياسى طوال الأسبوع الماضى ولا يزال بين المؤيدين والمعارضين لقرار الرئيس بعودة مجلس الشعب والذى يعنى خلافا بين فقهاء القانون والدستور وحيث بدا أن رأى فريق المعارضين ينطلق من اعتبارات سياسية بأكثر منها اعتبارات قانونية.. هذا الجدل وهذا الخلاف يصب فى واقع الأمر فى خانة ترجيح مشروعية القرار المستمد من شرعية الرئيس الذى مارس عملاً من أعمال السيادة بحسب حكم «الدستورية» عام 1990. وفى نفس الوقت فإن الهجوم الذى يشنه بقايا النظام السابق والمنتفعين بفساده ضد قرار رئيس الجمهورية والذين انضم إليهم بكل أسف كثير من القوى السياسية على خلفية المنافسة الانتخابية والخصومة السياسية مع جماعة الإخوان التى ينتمى إليها الرئيس.. هذا الهجوم ورغم افتقاده للموضوعية.. يتعيّن النظر إليه باعتباره تجسيداً حقيقياً وعملياً للديمقراطية التى لم تعرفها مصر عبر تاريخها والتى أتاحتها ثورة 25 يناير وكانت فى مقدمة أهدافها ومتطلباتها وصارت فى مقدمة مكتسباتها. بفضل ثورة 25 يناير وبفضل أرواح شهدائها الأبرار التى أزهقتها الآلة الأمنية القمعية المجرمة للنظام السابق الفاسد.. تشهد مصر ولأول مرة فى تاريخها أن الحاكم.. رئيس الجمهورية لم يعد ذاتاً مصونة وليس فرعون إلهاً. غير أنه من المؤسف أن يجرى استغلال الديمقراطية فى التضليل السياسى والإعلامى لعموم المصريين الذين التبس عليهم كل ما يجرى فى المشهد السياسى، وهو التضليل المُغرض الذى تمارسه كثير من القنوات التليفزيونية الفضائية بشأن قرار الرئيس بعودة مجلس الشعب وتصويره على أنه إهدار لأحكام القضاء، وعلى النحو الذى يشعل الفتنة السياسية والوطنية بهدف إفشال التجربة الديمقراطية الوليدة وإفشال الرئيس المنتخب ثم إسقاط الدولة. إن القراءة الموضوعية والسياسية بل القانونية أيضاً لقرار الرئيس بعودة مجلس الشعب للانعقاد تؤكد أنه لم يهدر حكم المحكمة الدستورية ببطلان المجلس، إذ أنه تضمن استمراره لحين إقرار الدستور الجديد والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة خلال ستين يوماً، وهو الأمر الذى يعنى أن القرار استهدف تجنب حدوث فراغ تشريعى، إذ أن استمرار البرلمان فى ممارسة مهامه رغم الحكم ببطلانه لحين انتخاب برلمان جديد.. له سوابق سياسية.. سواء فى مصر أو فى كثير من الدول الديمقراطية. ولذا فإن الرئيس محمد مرسى حين استخدم صلاحياته السياسية والسيادية بعودة مجلس الشعب المنتخب مؤقتاً لحين انتخاب مجلس جديد، فإنه يكون فى حقيقة الأمر قد صحّح خطأ القرار المتعجل الذى أصدره رئيس المجلس العسكرى بحل المجلس فوراً تنفيذاً لحكم بطلانه، إذ ترتب على هذا الحل استعادة المجلس العسكرى لسلطة التشريع وبما يعنى استمراره فى المشهد السياسى وفى السلطة.. خلافاً لتعهده بتسليم السلطة لرئيس منتخب. ثم إن مبدأ حماية البرلمان المنتخب باعتباره ممثلاً لإرادة الشعب من تدخل أية سلطة أخرى وخاصة من «جنرالات الجيش».. مبدأ دولى أقرته المواثيق الدولية وهو الأمر الذى استند إليه قرار الرئيس إذ تضمنت حيثياته الاطلاع على المعاهدات والمواثيق الدولية التى وقّعت عليها مصر. ومن المبادئ الديمقراطية المستقرة أيضاً أن البرلمان هو السلطة الأولى بين السلطات الثلاث باعتبار أنه السلطة التى تشرع وتصدر القوانين التى تحكم عمل واختصاصات كل من السلطة التنفيذية والقضائية أيضاً. يبقى أن أؤكد أن السطور السابقة ليست دفاعاً عن شخص الرئيس الذى أختلف معه فى انتمائه السياسى، بقدر ما كانت دفاعاً عن منصب الرئيس وشرعيته وصلاحياته السيادية خاصة وأنه أول رئيس مدنى منتخب انتخاباً حُراً نزيهاً، وفى نفس الوقت فإنها محاولة لقراءة موضوعية للأزمة السياسية التى تنذر بصراع على السلطة وخطر محدق بمصر وثورتها.