عملية (سوزانا)، واحدة من أشهر عمليات الجاسوسية، على المستوى المصرى والعالمى، وبالتأكيد على مستوى الصراع المصرى الإسرائيلى، ولقد بدأت فى الخمسينات، عقب حركة يوليو 1952م، وعرفت عالمياً باسم (فضيحة لافون)، نسبة إلى (بنحاس لافون)، وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق، والذى أصدر قراره ببدء العملية، من خلال المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان)... ولقد اعتمدت العملية على قيام مجموعة من الشباب الإسرائيلى المدرًَّب، بتخريب بعض المنشآت الأمريكية فى (مصر) فى ذلك الحين ... ففى ذلك الحين، كان (دافيد بن جوريون)، رئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير دفاعها الأسبق، قد اعتزل العمل السياسى، وجاء بدلاً منه (موشى شاريت) لرياسة الوزراء، و(بنحاس لافون) لوزارة الدفاع، فى نفس الوقت الذى وجدت (إسرائيل) فيه نفسها فى موقف لا تحسد عليه، إذ صار الاتحاد السوفيتى دولة عظمى، غير مؤيًَّدة لها، فى نفس الوقت الذى أدار فيه الرئيس الأمريكى (إيزنهاور) وجهه لها نسبياً؛ أملاً فى فتح قنوات اتصال جديدة مع النظام المصرى بعد الحركة، وكان الفكر الإسرائيلى يتوًَّقع صداماً ثأرياً، بينه وبين العرب، الذين لم تفارقهم مرارة هزيمة حرب 1948م بعد، وتولى الجيش السلطة فى (مصر)، يدق ناقوس الخطر حول هذا ... لذا فقد وضعت المخابرات العسكرية الإسرائيلية، المعروفة باسم (أمان)، خطة للتخريب والتجسًَّس فى (مصر)، وبالذات لضرب المصالح الأمريكية فيها، حتى لا يزداد التقارب المصرى الأمريكى، على حساب ضعف العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، وكانت الخطة تشتمل الاعتداء على دور السينما، ومؤسسات الدولة العامة، وبعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية، على أمل أن يفصم هذا العلاقة المصرية الأمريكية الوليدة، ويدفع بريطانيا إلى إعادة النظر، فى فكرة إجلاء قواتها عن (السويس) ... وبناء على الخطة، تم إنشاء ما يعرف بالوحدة (131) فى (مصر)، والتى ضمت مجموعة من شباب اليهود فى (الإسكندرية)، والعجيب أن أحدهم كان (جاك بيتون) موظف شركة التأمين الشاب، والذى هو فى واقعة (رفعت الجمًَّال)، الذى ينتحل شخصية يهودى، لحساب السلطات المصرية؛ لكى يتواجد فى أوساط اليهود، ويكون عينا عليهم ... ولقد كان المقدًَّم (مردخاى بن تسور) مسئولاً عن إنشاء ومتابعة الوحدة (131)، والتى اختار لقيادتها الرائد (إبرهام دار)، الذى سافر إلى (مصر)، ودخلها بجواز سفر زائف، كرجل أعمال بريطانى، تحت اسم (جون دارلنج)، ولقد تلًَّقت الوحدة أوًَّل أوامرها، كما كشفت التحقيقات فيما بعد، عبر رسالة لاسلكية، تحدًَّد أن الهدف الأكبر للعملية، هو الحيلولة دون التوًَّصل إلى اتفاقية مصرية بريطانية، بأى ثمن، وعن طريق توجيه ضربات متتالية للجبهة الداخلية المصرية، وحدًَّدت الأوامر الأهداف المنشودة بالتالى: المراكز الثقافية و الإعلامية، المؤسسات الاقتصادية، سيارات الدبلوماسيين البريطانيين، ورعايا (بريطانيا)، وأى هدف آخر، يمكن أن يؤدى تدميره إلى توتر العلاقات الدبلوماسية، بين (مصر) و(بريطانيا)، والبحث عن أهداف موجعة، فى منطقة القناة، وكانت الأوامر تصل عبر الإذاعة الإسرائيلية، فى السابعة من صباح كل يوم، وكانت إذاعة وصفة عمل (الكيك الإنجليزى)، هى إشارة بدء العملية .. وفى الأربعاء الثانى من يوليو 1954م، بدأت العملية، بتفجير ثلاثة صناديق بريد، فى مبنى البريد الرئيسى فى (الإسكندرية)، وكانت الأضرار طفيفة غير مؤثرة، مما دعا الصحافة إلى تجاهل الأمر، على الرغم من العثور على عبوة مجهولة، داخل الصناديق الثلاثة ... ولقد توًَّلى التحقيق فى هذا الصاغ (ممدوح سالم)، الذى صار رئيس وزراء (مصر) فيما بعد، ثم مساعداً لرئيس الجمهورية، والذى كشفت له التحقيقات أن العبوات تحوى مزيجاً من المواد الكيماوية، وقطع صغيرة من الفسفور الأحمر، ولم ينتبه أحد عندئذ إلى أن صناديق البريد كانت مجرًَّد تجربة لهذا النوع منزلى الصنع من المتفجرات، حتى انفجرت قنبلة فى المركز الثقافى الأمريكى فى (الاسكندرية)، صباح الرابع عشر من يوليو، ثم فى المركز الثقافى الأمريكى فى (القاهرة)، فى مساء اليوم نفسه، وفى الحادثين، ثم العثور على جراب لنظاًَّرة، يشبه ما تم العثور عليه فى حادث تفجير صناديق البريد، وفى الثالث والعشرين من يوليو، كانت الخطة تقضى بوضع متفجرات فى محطات القطارات، ومسرح (ريفولى) بالقاهرة، ودارى سينما (مترو) و(ريو)، إلا أن إحدى العبوّات اشتعلت، فى جيب أحد منفذى العملية، قبل موعدها، وتم إنقاذه من قبل المارة، واعتقاله من قبل ضابط شرطة، ارتاب فى الأمر ... وفى المستشفى، وجد الأطباء مسحوقاً فضياً، يلطًَّخ جسم الشاب، وتم العثور معه على جراب نظاًَّرة، داخله مسحوق مشابه، ورجًَّح الأطباء أن يكون الاشتعال ناشئاً عن تفاعل كيمائى، وبتفتيش الشاب، الذى يدعى (فيليب ناتاسون)، غير المعروف الجنسية، والذى يبلغ من العمر- آنذاك – 21 عاماً، تم العثور على جراب آخر، به قنبلة من النوع ذاته، ويحمل اسم (مارون آياك)، صاحب محل النظارات، واعترف الشاب بأنه عضو فى منظمة مسئولة عن الحرائق، وفى منزله، تم العثور على مصنع صغير للمفرقعات، ومواد كيماوية سريعة الاشتعال، وقنابل حارقة ... وبناءً على اعترافاته، سقط أفراد الشبكة، وهم (فيكتور موين ليفى)، مهندس زراعى، فى الحادية والعشرين من عمره، و (روبير نسيم داسا)، تاجر فى نفس العمر، ولقد ادعى كلاهما الوطنية، وأن هدفهما كان حب (مصر)، وإرسال رسالة إلى الانجليز والأمريكيين، بأنهم سيخرجون منها بالقوة، ولكنهما عجزا عن تبرير محاولة حرق مكتب البريد المصرى، كما جاء فى التقرير، الذى يفيد العثور على شرائح ميكروفيلم، فى منزل (فيليب ناتاسون)؛ ليحسم الأمر تماماً، حيث لم يكن الحصول على الميكروفيلم متاحاً، فى ذلك العصر، إلا لأجهزة المخابرات وحدها، مما يثبت أنهما جاسوسان .... وهكذا تساقط باقى أفراد العملية، واحداً بعد الآخر، وتم احتجاز عدد كبير من اليهود للتحقيق معهم، كان من بينهم، وفقاً لترتيبات القدر (جاك بيتون) نفسه، والذى تم احتجازه فى زنزانة واحدة، مع (إيلى حوفى كوهين)، والذى ساعد (رفعت الجمًَّال) على إسقاطه فى (سوريا) بعد بسنوات، عندما عاش هناك تحت اسم (كامل أمين ثابت)، وكاد يتوًَّلى منصب وزير الدفاع السورى، بعد أن تم ترشيحه لمنصب نائب وزير الدفاع بالفعل، قبيل كشف أمره وسقوطه بقليل، أما فى (مصر)، فقد جاءت قائمة الاتهامات، فى قضية (سوزانا) كبيرة .... ولهذا حديث آخر.