فى أوائل الخمسينيات جنّدت المخابرات الإسرائيلية مجموعة من الشباب اليهود المصريين للقيام بعمليات تجسس وتخريب للمنشآت الأمريكية فى القاهرةوالإسكندرية بهدف تدمير العلاقة بين عبد الناصر والإدارة الأمريكية من ناحية، وتوجيه أصابع الاتهام ناحية الشيوعيين والإخوان المسلمين وزعزعة الاستقرار فى مصر من ناحية أخرى. وبالتوازى مع عملية إنشاء شبكة التجسس والتخريب هذه كانت عملية إعداد «إفرى إلعاد» تجرى على قدم وساق للدفع به إلى (بلد القاعدة) ألمانيا، تمهيدًا لزرعه فى (بلد الهدف).. مصر. قام ضباط الوحدة 131 بتسليم «إفرى إلعاد» شهادة ميلاد ليهودى ألمانى باسم «باول فرانك» كان قد توفى قبل ذلك بعدة سنوات. وبهذه الشهادة كان على «إفرى إلعاد» أن يبنى قصة غطاء محبوكة ومقنعة وأن يخلق لنفسه حياة جديدة. فسافر إلى ألمانيا واستقر فى غرفة صغيرة فى فرانكفورت.. ولم تكن حياته سهلة. فألمانيا بعد الحرب كانت غارقة فى أزمة اقتصادية، وكان راتبه مع البدلات التى يتلقاها من المخابرات العسكرية الإسرائيلية هزيلًا نسبيًا. ففى كل شهر كان يتلقى حوالى 230دولارًا ينفق نصفها على عائلته التى بقيت فى إسرائيل. وكان أول ما فعله فى ألمانيا هو الحصول على وثائق ومعلومات تساعده فى (إعادة ترتيب) ماضيه، فذهب إلى الأرشيف العسكرى الألمانى، وكان «باول فرانك» اسمًا شائعًا للغاية. فأخذ يبحث بين العسكرية الذين اختفوا أو ماتوا عن أولئك الذين يحملون نفس الاسم. لم يكن عليه أن يبحث عن الاسم الشخصى واسم العائلة فقط، بل كان لزامًا عليه أيضًا أن يبحث عن شخص يناسب عمره ولهجته وخلفية حياته.. وبالمصادفة فى عام 1943م قامت المخابرات الألمانية باسقاط عملاء لها فى فلسطين هبطوا بالمظلات فى منطقة «أريحا» واختفت آثارهم بعد ذلك. وكان من بين أولئك العملاء رائد يدعى باول فرانك. وهكذا أصبح فى إمكان إلعاد أن يشرح لأى أحد سبق أن رآه أو تعرف عليه فى إسرائيل بأنه فعلًا كان يتخفى فى إسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية تحت اسم (إفرى إلعاد). وبدأ إلعاد يدرس كافة التفاصيل عن ماضى «باول فرانك». فسافر إلى بلدته التى ولد فيها، والقرية التى سكنها والكنيسة التى كان يصلى فيها ضابط المخابرات النازى. وتذكره أبناء القرية بعدما انقطعت أخباره تمامًا بعد انتهاء الحرب، وتحدث مع أناس كانوا يعرفون (والده)، و(والدته)!! وتعرف إلعاد على مجموعة من الضباط السابقين فى الجيش الألمانى معظمهم من النازيين أو المؤيديين للنازية، ولم تكن علاقته معهم بالأمر السهل، لكن تدريباته فى القسم الألمانى التابع للبالماخ ساعدته فى مهمته كثيرًا. وبعد ذلك، ووفقًا لتعليمات المخابرات العسكرية الإسرائيلية، وجد باول عملًا فى شركة ألمانية للإلكترونيات ونجح فى إقناع أصحابها بتعيينه وكيلًا لها فى مصر. وبالفعل سافر باول فرانك إلى الإسكندرية فى أوائل 1954م ليمارس عمله كوكيل للشركة الألمانية، وفى مصر تعرف باول فرانك على السفير الألمانى فى القاهرة، جينتر باولكاه، ودعاه السفير إلى منزله للعشاء ولحضور حفلات الكوكتيل وقدمه إلى معارفه من المصريين والأجانب، لكن حتى تلك الرحلة لم يكن «باول فرانك» يعرف الهدف الحقيقى من وراء إرساله إلى مصر. كما لم يكن يعلم بوجود الشبكة اليهودية. وفى مايو 1954، تلقى باول فرانك أمرًا بالسفر على وجه السرعة من القاهرة إلى باريس، حيث التقى هناك فى يوم 26 مايو مع قائده مرد خاى بن تسور، فى أحد مقاهى شارع سان جيرمان دى بارى، بالحى اللاتينى، وتسلم منه أوامر تفصيلية بخصوص الاتصال بأعضاء شبكة التجسس والتخريب فى الإسكندرية وأن يترأس هذه الشبكة ويقوم بتجهيز أعضائها للعمل. وقيل أيضًا إن هدف العملية التى أطلقوا عليها اسم (سوزانا) هو تخريب الأماكن العامة وضرب المنشآت الأمريكية والبريطانية، بغرض الوقيعة بين مصر وهاتين الدولتين، على أمل أن تؤدى الضربات أيضًا إلى تعطيل الجلاء المتوقع للجنود البريطانيين عن قواعدهم فى منطقة قناة السويس. عاد إلعاد (فرانك) إلى مصر فى أوائل يونيو، وخلال عدة أيام كان قد اتصل بأعضاء الشبكة الذين عرفوه باسم (روبرت)، وقبل ذلك كان قد أثير نقاش حاد فى إسرائيل فيما يتعلق بأهداف الوحدة 131، حيث اصر كل من رئيسى الأركان كل فى فترته - مردخاى ماكليف ويجئال يادين - على أهمية هذه الوحدة للجيش الإسرائيلى فى حين اعتقد رئيس الأركان، موشيه ديان، أن وجود مثل هذه الوحدة مضيعة للجهد والمال، وأنه من الأفضل للمخابرات العسكرية أن تركز عملها فى جمع المعلومات الخاصة بالقدرة العسكرية للدول العربية. كما أثير نقاش آخر بين بنيامين جيبلى، رئيس المخابرات العسكرية، وإيسار هرئيل، رئيس الموساد الذى خلف رأوبين شيلوح فى سبتمبر 1952م، فقد قال هرئيل بإن كافة العمليات التى تتم خارج حدود الدولة، بما فى ذلك العمليات التى تقوم بها الوحدتان 131، 132، يجب أن تكون تابعه للموساد. وفى الوقت الذى احتدم فيه صراع القوى فى إسرائيل كانت عملية إعداد وتجهيز باول فرانك للعمل فى مصر تجرى على قدم وساق، حيث كان يتلقى التعليمات بالشفرة من (إذاعة إسرائيل)، ومن خلال البرنامج الذى تبثه يوميًا إلى ربات البيوت، فكانت طريقة إعداد الكعك الإنجليزى مثلًا تعنى القيام بنسف المكتبات التابعة لوكالة الإعلام الأمريكية. فى منتصف يونيو التقى إلعاد (فرانك) بأعضاء الشبكة وذلك فى الشقة رقم 105 بالمنزل رقم 8 بشارع المستشفى الحكومى بالإسكندرية، ويحكى إلعاد فى مذكراته أن أحد أعضاء الشبكة وهو روبرت داسا (المذيع ومقدم البرامج فى التليفزيون الإسرائيلى فيما بعد) قام بشرح كيفية إخفاء المتفجرات فى جراب النظارة وكيفية وضع القنابل الزمنية فى العلب الخاصة بمساحيق الغسيل. وفى 2 يوليو 1954، قام أعضاء الشبكة بزرع قنابل صغيرة فى ثلاثة صناديق للبريد بمكتب البريد الرئيسى فى الإسكندرية، وانفجرت القنابل مخلفة أضرارًا طفيفة للغاية، لدرجة أن الصحافة المصرية لم تكتب عنها شيئا. ولم يتم بها السلطات. وبعد عدة أيام صدرت التعليمات عن طريق الإذاعة بخصوص إعداد الكعك الإنجليزى. وبناء على هذه التعليمات وفى 14 يوليو، انفجرت قنبلتان فى مكتبتين تابعتين للمركز الثقافى الأمريكى فى القاهرةوالإسكندرية، وفى هذه المرة جاء رد فعل السلطات المصرية عصبيًا للغاية واتجهت أصابع الاتهام إلى الشيوعيين وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين.. وبدأت موجة من الاعتقالات. وتم تشديد الحراسة على الأماكن العامة، وكان من المقرر للعملية التالية أن تتم يوم 23 يوليو 1954م الذى يوافق الذكرى الثانية لقيام الثورة. وكان من بين الاهداف المختارة محطة السكك الحديدية بالقاهرة وسينما ومسرح (ريفولى)، وفى الإسكندرية سينما (مترو) وسينما (ريو). وكان الشخص المكلف بعملية سينما (ريو) هو فيليب نتانزون، لكن القنبلة التى وضعها فى جيب بنطلونه انفجرت بطريق الخطأ وهو واقف فى طابور الدخول للسينما، فسارع الشرطى الموجود بالمكان، وكذلك المارة إلى مساعدته فى إطفاء النيران، وقاموا بعد ذلك بإلقاء القبض عليه. وبعد يوم واحد تم القبض على بقية أعضاء الشبكة بالإسكندرية وبعدها ألقى القبض على أعضاء شبكة القاهرة. لكن شخصًا واحدًا فقط هو إفرى إلعاد (باول فرانك) ظل حرًا لأسبوعين بعد ذلك. بل إنه باع سيارته براحته قبل أن يغادر مصر ويعود عن طريق أوروبا إلى إسرائيل. ومن هنا ولسنوات طويلة بعد ذلك بقيت مسألة بيع السيارة هذه محل خلاف كبير بين قادة المخابرات الإسرائيلية الذين تشككوا فى معظمهم: هل كان إفرى إلعاد خائنًا وقام بتسليم أعضاء الشبكة للبوليس المصرى؟ هل نجح المصريون فى تجنيده وتحويله إلى عميل مزدوج؟ فقد كان من غير المعقول ولا المنطقى فى تلك الأيام وفى تلك الظروف أن يبقى إفرى إلعاد فى مصر لأسبوعين كاملين بعد إلقاء القبض على أعضاء شبكة التجسس والتخريب، وأن يبيع سيارته براحته. فى يوليو 1954م وفى أعقاب الفشل الذريع الذى منيت به المخابرات الإسرائيلية، أصدر رئيس الأركان «موشيه ديان»، أمرًا بإقصاء مردخاى بن تسور عن منصبه فى قيادة الوحدة 131 وعين بدلًا منه العقيد يوسى هرئيل المعروف باسم (هامبورجر). وكان أول قرار اتخذه هرئيل بعد توليه هو إعادة كافة عملاء المخابرات العسكرية إلى إسرائيل. وعند إعادة تنظيمه للوحدة اكتشف هرئيل أن بن تسور وجيبلى وضباطًا آخرين من بينهم إفرى إلعاد كانوا متورطين فى أعمال خداع وتزيف للوثائق والإدلاء بشهادات كاذبة أمام لجنة التحقيق فى الفضيحة. وفى 11 ديسمبر 1954م بدأت محاكمة أعضاء شبكة التجسس والتخريب الإسرائيلية أمام محكمة عسكرية فى القاهرة. وصدر الحكم على اثنين من أعضائها هما شموئيل عازار والدكتور موشيه مرزوق بالإعدام. وفى 31 يناير تم إعدامهما شنقًأ. وصدرت أحكام بسجن الآخرين لسنوات طويلة. وكان من بين المقبوض عليهم أيضًا مئير (ماكس) بينيت، وهو رائد فى المخابرات العسكرية الإسرائيلية سبق له العمل فى كل من طهران وبغداد، وانضم إلى الوحدة 131 عام 1951م حيث عمل تحت إمرة أبراهام دار. وفى عام 1952م تم إرسال بينيت إلى ألمانيا، ومن هناك تم إدخاله إلى مصر تحت غطاء رجل أعمال ألمانى. لم تكن مهمة بينيت فى مصر تستلزم وجود أية حيلة بينه وبين أعضاء شبكة التجسس والتخريب، لأنه كان يقوم فى الواقع بجمع معلومات عسكرية. لكن تصادف أن تعرفت عليه مارسيل نينيو، عضوة الشبكة غير أنها لم تكن تعرف اسمه الحقيقى وكل ما عرفته وأبلغته للمحققين هو رقم سيارته.. لكن من الممكن أيضًا أن يكون إفرى إلعاد نفسه هو الذى أبلغ المخابرات المصرية عن وجود بينيت فى مصر. المهم أنه فى 21 ديسمبر 1954م انتحر مئير (ماكس) بينيت داخل زنزانته، واستعادت إسرائيل جثته بعد ذلك بسنوات. والغريب أنه على امتداد حوالى خمسة أشهر - منذ القبض على أفراد الشبكة وحتى تقديمهم للمحاكمة فى مصر - لم تناقش الحكومة الإسرائيلية هذا الموضوع، ولم يهتم أحد من الوزراء بما حدث. لكن بعد صدور الأحكام وتنفيذها ثادرت عاصفة شديدة داخل الحكومة، ووجه بعض الوزراء أصابع الاتهام لوزير الدفاع الإسرائيلى بنحاس لافون. ولافون - الذى حملت الفضيحة اسمه - أدرك أنه لم يعد محل ثقة زملائه فى الوزارة فاستقال من منصبه ليحل محله دافيد بن جوريون. واضطر رئيس المخاربرات العسكرية، بنيامين جيبلى، هو الآخر لترك منصبه ليحل محله نائبه يهو شافاط هركابى. وبدأ كل من لافون وجيبلى يحمّلان بعضهما البعض مسئولية إصدار الأوامر لشبكة التجسس والتخريب بممارسة عملها فى مصر. ولكى يحمى نفسه قبل أن يضطر لتقديم استقالته قام جيبلى بإعادة إفرى إلعاد إلى ألمانيا بنفس هويته.. باول فرانك. ويقال إنه أراد إبعاده عن إسرائيل حتى لايدلى بشهادته! آثار إبعاد إفرى إلعاد عن إسرائيل غضب رئيس الموساد، إيسار هرئيل الذى كانت تساوره الشكوك فى تورط إلعاد فى تسليم أعضاء الشكبة للمخابرات المصرية، لكنه ابتلع غضبه ولم يكن فى استطاعته عمل شىء إذ لم يكن له موضع قدم داخل المخابرات العسكرية، وكان العداء محتدمًا بين الجهازين الأمنيين على خلفية عدم تقسيم العمل بصورة واضحة. فالاثنان يعملان فى الخارج ويرسلان العملاء إلى هناك والفارق الوحيد هو أن المخابرات العسكرية كانت تنتقى عملاءها من الإسرائيليين أو من اليهود المحليين. حين كان من حق الموساد تجنيد عملاء أجانب من دول (القاعدة) ودفعهم بعد ذلك إلى دول (الهدف). هذا الخلاف كان له أثره بصفة خاصة فى فهم التطورات التى حدثت فى قضية إفرى إلعاد أو باول فرانك أو (الرجل الثالث) الذى تركزت مهمته الجديدة فى ألمانيا على تأسيس شركة استيراد وتصدير يستطيع من خلالها تجنيد العملاء. ففى أثناء قيام لجنة التحقيق المعروفة باسم لجنة أولشن - دورى بعملها إنما إلى علم رئيس الأركان موشيه ديان أن بنيامين جيبلى يخطط للسفر إلى ألمانيا ومقابلة إلعاد. فتحدث ديان مع رائد يدعى يعقوب حيفتس كان مسئولًا عن الشئون المالية فى المخابرات، وحذره من تمويل رحلة جيبلى بأموال السلاح. وتراجع جيبلى عن فكرة السفر لكنه وجد طريقة أخرى لنقل رسالته إلى إلعاد. وفى يناير 1955م، تم استدعاء إفرى إلعاد من ألمانيا إلى إسرائيل لكى يدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق، وقبل مجيئه وصلته رسالة جيبلى التى طلب منه فيها الإدلاء بتفاصيل كاذبة وأن يشير فى شهادته إلى تواريخ معينة بحيث تأتى متوافقة مع التواريخ التى زيفتها سكرتيرته، وهى السكرتيرة داليا جولد شتاين التى اعترفت بعد ذلك بحوالى ثلاثين عامًا بأن جيبلى أمرها بتزييف التواريخ الخاصة ببعض الوثائق. بمجرد وصول إلعاد إلى المطار فى إسرائيل أحاط به رجال جيبلى وأبلغوه بما سوف يقوله كذبًا أمام لجنة التحقيق. والتقى إلعاد مع رئيس الأركان ديان ووزير الدفاع لافون، وتمسك أمامها بالرواية الكاذبة التى حالت دون اتخاذ أى قرار بشأن المسئول عن إعطاء الأوامر للشبكة بممارسة عملها فى مصر. وعندما علم رئيس الموساد، إيسار هرئيل بوصول إلعاد إلى إسرائيل طلب إلقاء القبض عليه والتحقيق معه، لكن جيبلى ورجاله فى المخابرات العسكرية عملوا على حمايته وعودته إلى ألمانيا لمواصلة عمله. وعندما عودته إلى ألمانيا اتصل إفرى إلعاد بضابط مصرى هو العقيد عثمان نورى، المحلق العسكرى المصرى فى سفارتنا فى بون، الذى كان قد تعرف عليه فى القاهرة وقت أن كان نورى يعمل نائبًا لرئيس المخابرات الحربية. والسؤال الذى لا يزال يبحث عن إجابة هو: هل كان إفرى إلعاد أو باول فرانك ضحية صراع الأجهزة الأمنية فى إسرائيل؟ وهل استطاع العقيد عثمان نورى الخبير فى شئون مكافحة التجسس - الذى أصبح فيما بعد سفيرًا لمصر فى نيجيريا - أن يجنّد إفرى إلعاد ويجعل منه عميلًا مزدوجًا؟ وهل قام إلعاد فعلًا بتسليم أعضاء شبكة التجسس والتخريب الإسرائيلية إلى المخابرات المصرية؟ البقية فى العدد القادم.