بعد لفّ ودوران أجهد الحاج أحمد وصلت به أقدامه إلى هذا المستشفى. ولكن الأمل الذى خاب من قبل، خاب أيضا هذه المرة.. غير أن أحد الأطباء أوقفه قبل أن يغادر المستشفى فقد أقنعه ببساطة، بما أنه لم يجد ابنه بين الجثث الحية الملقاة على الأسرّة فإنه من الممكن أن يجده بين الجثث التى فقدت الحياة بالثلاجة «morgue».. هى غرفة بها مبردات توضع الجثث فيها لتحفظ لبعض الوقت. إذن فهى ليست المثوى الأخير ولكنها مقر مؤقت للجثث حتى تذهب بعد ذلك إلى مقرها الدائم.. أو مثواها الأخير.. بها تعرّف الحاج أحمد على جثة ابنه كريم ولم يتمالك نفسه، فبكى حاول أن يكتم بكاه جاهد عينيه قدر المستطاع ولكن كلما حاول منعهما عن البكاء ازداد بكاءً، وبدأ يصدر منه صوت كالعويل.. فسحبه الطبيب من كتفه برفق، فرؤية جثمان إنسان مبردّمرّ عليه عدة أيام أحدثت فيه تغييرا نقلته من حياة إلى حياة ليس أمراً سهلاً خصوصاً أن الجثة لعزيز.. والبصر قد يخدع ولكن بصيرة تحليل الحامض النووى أثْبتت أن جثة الفتى ليست لابن الحاج أحمد والسيدة منى زوجته.. حاولت السيدة منى أن ترى جثة الشاب، غير أن الطبيب أكد لها أنه ليس ابنهما فلا داعى لأن ترى جثة مبردّة تؤرقها فى اليقظة والمنام.. حاول الطبيب أن يمنح الحاج أحمد وزوجته الأمل الذى يمنحه لكل من يتعرف على جثة الشهيد وظن أنه منه: - ياحاج.. إذا كانت التحاليل قد أثْبتت أنه ليس ابنك فهذا يعنى ان ابنك ربما يكون حيا.. إن شاء الله تجده.. سألت منى الحاج أحمد: - لقد قلت لى إنه هو.. فأجابها الحاج أحمد متعجباً: - لا أعرف يا أم كريم.. كأنه هو.. الشبه كبير.. ولكن التحاليل.. وأشاح بيده بعلامه نفى.. فى اليوم السابق نفس الموقف حدث مع الأستاذ/ جورج والسيدة هدى حرمه فقد أكد جورج أنه ابنه ولكن التحاليل أكدت أنه ليس منهما.. وخرج جورج وزوجته مثاقلين يبحثان فى مكان آخر عن ابنهما المفقود.. وهو ما حدث اليوم مع الحاج احمد والسيدة منى.. رحلة مضنية لا رغبة لأحد فيها ولكنه المكتوب.. فى بيت الحاج أحمد مرّ شريط من الذكريات.. ذكريات طفولة كريم.. حياته كلها من الحضانة حتى ميدان التحرير.. مر الشريط سريعا أمام عينى أم كري.. فقد كانت موجودة بالبيت عندما قال لها أنه ذاهب إلى ميدان التحرير.. خرج.. ولكنه لم يعُد.. بينما بكى جورج فى منزله كثيرا وأنب نفسه أنه لم يمنع أبنه جودت من الذهاب إلى ميدان التحرير.. ولكن كيف يمنعه وهو لو كان بصحته لذهب معه. فقد شعر جورج حين قال له جودت إنه ذاهب إلى الميدان شعوراً غريباً.. كان جواً أثيرياً يملأ الدنيا كلها.. انتعش له صدره، وأزاح هماً كبيراً دام أكثر من ثلاثين عاماً من عمره الذى ناهز السبعين.. كتبت الصحف كثيراً عن الشهيد المجهول.. ولكن كل مرة يراه يرى فيه ابنه أو شقيقه.. ولكن التحاليل كانت دائماً حائلاً بينه وبين كل من يتعرف عليه.. واحتار الطبيب المسئول ماذا يفعل بجثة الشهيد!؟.. لا يستطيع أن يمسكه على هون، ولا يستطيع أن يدثه فى التراب.. حتى جاءت سيدة استأذنت الطبيب فى الحديث، فأذن لها ..جلست السيدة.. لا تعرف من أين تبدأ.. فما كان منهاسوى أن أخرجت صحيفة من حقيبة يدها وقدمتها إلى الطبيب: - حضرتك طبعاً قرأت هذا الخبر.. نظر الطبيب من بعيد إلى الجريدة.. وهو يهز رأسه بالإيجاب: - نعم.. ثم استطرد.. هل تريدين أن تتعرفى عليه؟.. فهزت السيدة رأسها بالنفى: - لا.. إنما أريد أن أكُرّم الشهيد.. أريد أن أدفنه بمدافن الأسرة.. نظر الطبيب إليها فى دهشة، ما لبثت أن تحولت الدهشة إلى إعجاب، فقد أتت هذه السيدة بالحل الأمثل.. وأن الله هو الذى أتى بهذه السيدة وحلها الأمثل.. ولم يتردد الطبيب: - فى الحقيقة ما تطلبينه هو عرض طبيب.. وهو أفضل حل.. جزاك الله خيراً.. لكن هناك بعض إجراءات للتصريح بالدفن.. - افعل ما شئت.. وأنا مستعدة لكل المصاريف.. - ياسيدتى.. فى فعل الخير لا توجد مصاريف.. فى اليوم التالى والشهيد فى طريقه إلى مثواه الأخير.. كان هناك عدد غير قليل من المودعين.. بعضهم ممن تعرفوا عليه ولم يثْبت نسبهم له كالحاج أحمد وزوجته والسيد جورج وزوجته.. كان الجميع يمشى خلف نعش الشهيد فى صمت يقطعه من حين إلى حين صوت نحيب يتردد فى جنبات الجنازة كأنه صدى صوت واحد يذهب ويعود هنا وهناك.. وإن كان النحيب لم يجرؤ على أن يمس مهابة الجنازة.. لاحظ الحاج أحمد أن الرجل الذى بجواره يبكى بشدة ويضع منديلا على عينيه فلا يكاد يرى الطريق فيتعثر فى أقدامه، تعاونه سيدة على السير بأن أمسكت بإحدى يديه بقوة بينما أمسكت باليد الأخرى بمنديل لتمسح دموعها التى لا تنقطع.. ربت الحاج أحمد على كتف الرجل ليتماسك ولكنه ازداد بكاءً، فحاولت السيدة التى برفقته أن تهدئه فقالت بصوت خفيض: - كفاية ياجورج.. كفاية سوف تموّت نفسك.. وعندما وصل الشهيد إلى حيث يدفن وبينما همّ العديد من الرجال بانزاله إلى مثواه.. هتف أحد الشباب: - مع السلامة ياعبد الله.. فسأله جورج أتعرفه؟ .. فرّد الشاب وعيناه معلقة بجثمان الشهيد: - ياحاج كلنا عباد الله.. فنظر جورج إلى جثمان الشهيد وهتف: - مع السلامة ياعبد الله.. فهتف الحاج أحمد: - مع السلامة ياعبد الله.. وتعالت الهتافات