لا يمكن أن يتحقق أى تقدم – على المستوى الفردى أو العام – دون تخطيط دقيق ومحكم.. ولا يمكن لمصر أن تشهد نهضة حقيقية دون إسناد هذه المهمة الحيوية للخبراء المخضرمين.. بمشاركة كافة فئات الشعب وطوائفه وأحزابه.. نسائه ورجاله وحتى أطفاله الذين قد يظن البعض أنهم خارج هذا الإطار التخطيطى، ولكن الواقع يؤكد أنهم أساس التخطيط ومحوره.. ومستقبله.. ولو تم ذلك بواسطة الكبار.. دائماً!! وحتى نكون منصفين فإن من حُسن حظ مصر أن يكون رئيس وزرائها الحالى واحدا من أبرز أساتذة التخطيط المخضرمين.. على مدى عقود طويلة.. فكراً وممارسة.. من خلال مناصب عديدة تقلدها وترك بصمته فيها.. وفى مصر كلها أيضاً. هذا الرجل «التخطيطى» وضع أكبر خطط مصرية على الإطلاق (الخطة العشرينية) التى بدأت عام 1983.. وانتهت عام 2003، أى أنه رغم مغادرته السلطة عام 1999.. فقد وضع أساساً قوياً وطويل المدى لخروج مصر من عنق الزجاجة ودوامة الأزمات التى كانت تحيط بها وتكاد تعتصرها وتخنقها. إضافة إلى مشاريع أخرى.. منها شرق العوينات وتوشكى والخط الثالث لمترو الأنفاق.وهاهو ذا يعود اليوم.. ولم يبتعد كثيراً عن نهاية خطته العشرينية.. ولكنه اليوم مطالب – ومعه كافة خبراء التخطيط وعقول مصر النابهة والناجزة – بوضع تخطيط بعيد المدى.. يجب أن يمتد لعام 2050 على أقل تقدير.. بمشيئة الله. ونحن لا نريد أن نفرض رؤيتنا على من هم أعلم منا بهذه القضية.. ولكننا نضعها ضمن حلقات (كيف نبنى مصر؟). والمطلوب هنا إعداد خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد.. فى كل المجالات. ولنبدأ باقتراح الخطط العاجلة أو قصيرة الأمد. وقد حددتها الحكومة فى الأمن والاقتصاد. ورغم أن الأمن يأتى أولاً.. فإن الإنصاف يقتضى منا الاعتراف بأن الجنزورى بدأ على محاور عديدة.. فى آن واحد. صحيح أن التركيز الأول كان على الأمن.. إلا أن حماس حكومة الجنزورى وتقديرها لخطورة الأوضاع السائدة وانطلاقاً من وطنيتها.. جعلها تهتم بالعمل على كافة المحاور.. تسابق الزمن حتى تحظى فعلاً – لا قولاً – بلقب حكومة الإنقاذ. ومحاور الخطة الأمنية العاجلة.. ركّزت على تأمين الشارع والمواطن البسيط.. خاصة فى المناطق المضطربة والتى شهدت انفلاتاً أمنياً ملحوظاً وأساءت لصورة مصر وهددت أبناءها واقتصادها.. وزائريها أيضاً، فبدأنا نشعر لأول مرة منذ شهور بجدية رجال الأمن – خاصة الشرطة التى انتشرت بكثافة واسعة فى كافة المناطق. ولكن الأمانة تقتضى بمطالبة المواطن بالإسهام والمشاركة الفعالة والحقيقية فى صنع أمنه والحفاظ عليه، وبالتعاون مع الأجهزة المسئولة. وهنا نقترح دوراً أكثر فعالية لأجهزة العلاقات العامة فى وزارة الداخلية وأقسام ونقاط الشرطة.. يجب أن يكون هناك مسئول للعلاقات العامة بكل قسم يجيد التواصل مع المواطنين.. يستشعر همومهم ومشاكلهم.. ليس الأمنية فقط.. بل المعيشية والحياتية أيضاً. فأية مشكلة فى السلع والخدمات سوف تنعكس على الأمن مباشرة.. وعندما يتعاون رجل الأمن فى حل هذه المشكلة.. فإنه فى نهاية المطاف يساعد نفسه ووطنه. وإذا كانت قوات الجيش قد قامت بالمهام الأساسية لتأمين الانتخابات.. فإن الشرطة كان لها دور مهم أيضاً.. فى دوائر أوسع.. فى ذات العملية الديمقراطية الناجحة. ولأول مرة يشعر الشعب بأن الشرطة ساهمت فى هذا الإنجاز.. بعد أن كانت تمارس أسوأ الأدوار فى التزوير والترهيب والاعتقالات والتعذيب. ومن الخطط العاجلة التى ركّز عليها الجنزورى إنقاذ الاقتصاد من خلال خفض عجز الموازنة بتوفير 20 مليار جنيه من نفقات الحكومة. ولست أدرى.. لماذا لم تقم الحكومات السابقة خلال العام الماضى بمثل هذه الخطوة البسيطة والجريئة معاً؟! وهذا المبلغ يعادل ما نريد اقتراضه من صندوق النقد الدولى (نحو 3.2 مليار دولار). وهنا نطالب مسئولى البنك المركزى بالكشف عن إجمالى احتياطى مصر من العملات الصعبة.. وهل تدخل فيها المليارات التسعة التى أعلن أنها كانت فى حسابات خاصة للرئيس المخلوع أم لا؟! نريدهم أن يفتشوا وينقبوا.. ربما يكتشفوا مليارات أخرى.. تغنينا عن سؤال اللئيم.. ومن يدّعى الكرم!! ومن الخطط العاجلة التى بدأها الجنزورى إحياء مشروع استصلاح الأراضى الزراعية الذى توقف على مدى سبع سنوات.. عجاف!! وتكمن حيوية هذه الخطوة فى أننا نشهد حالة من التجريف والتخريب غير المسبوق والمتعمد لأجود الأراضى الزراعية فى ريف مصر.. نتيجة الانفلات الأمنى.. والانهيار الأخلاقى والجشع والطمع الذى دفع الكثيرين لانتهاز فرصة غياب أجهزة الأمن والرقابة والمحاسبة والبناء الجنونى.. حتى فى أرقى الأماكن.. ومنها كورنيش النيل.. وليس فى المناطق العشوائية أو النائية. كما أعادت الحكومة – فى خططها قصيرة المدى – إحياء مشروع البتلو ودعمه بستمائة وخمسين مليون جنيه. وهذه دلالة أخرى على قدرة الحكومة على تدبير مواردها لإنجاز مشروعات حيوية تسهم فى خفض الأسعار عامة.. واللحوم خاصة، كما تدرس الحكومة إعفاء المشروعات الصغيرة من الضرائب لمدة ثلاث سنوات. وهذه خطوة ممتازة – لو تمت – فسوف تشجع الشباب وتستوعب أعداداً كبيرة من العاطلين. والمطلوب هنا من الأجهزة المحلية تسهيل إجراءات التراخيص وبدء المشاريع الجديدة الصغيرة، فيمكن لمحل صغير أن يفتح أكثر من بيت ويوفر أبواب الرزق لعشرات من الأفواه الجائعة، فقط نريد أن تختفى المافيا والبيروقراطية من المحليات وأجهزة الشرطة والصحة والرقابة الانتهازية التى كانت تعمل لمصلحتها الشخصية «المحرّمة».. والتى تستغل نفوذها وصلاحياتها للثراء الفاحش والأكل «السُحت». على المستوى السياسى بدأ الجنزورى مبادرة للتنسيق مع الأحزاب المشاركة فى البرلمان.. وانطلاقاً من حزب الحرية والعدالة.. حزب الأغلبية الحائز على ما يقرب من نصف مقاعد البرلمان. والجنزورى رجل سياسى محنّك يقرأ الخريطة السياسية بدقة ومهارة. ويدرك أن التيار الإسلامى. إجمالاً – فاز بنحو 75% من مجلس الشعب الجديد.. وهى نسبة تكاد تقترب من نتيجة الاستفتاء (77%) وتتطابق مع إرادة الشعب الذى اختار التيار الأنسب له والأكثر تعبيراً عن هويته وحضارته وعقيدته.. مع الاحترام الكامل والتقدير الكبير لكل شركاء الوطن الذين يحفظ لهم الإسلام حقوقهم وصوامعهم منذ قرون.. بصورة فاقت الرومان الكاثوليك الذين كانوا يستبدون بهم قبل مجىء عمرو بن العاص. والتنسيق السياسى هو أحد محاور التخطيط قصير المدى للحكومة الحالية.. التى حظيت بدعم أكبر القوى البرلمانية والسياسية الحالية (الحرية والعدالة) وهذا فيه قدر من الذكاء (الإخوانى).. فالمهمة الحالية شديدة الوعورة والخطورة.. وتحتاج إلى خبير مخضرم ومحنّك مثل الجنزورى. والفشل فيها لا قدر الله سوف يحمِّل هذا التيار مسئولية تاريخية كبرى - وهم لا يريدون أن يتولوا قيادة بلد منهار أمنياً واقتصادياً.. إلخ.. ومن المؤكد أنهم يسعون للبناء على أساس جديد.. لا يبدأ من نقطة الصفر.. فى هذا البرد القارس.. الساخن سياسياً! والتخطيط بمفهومه الواسع يجب أن يتم على نطاق استراتيجى يحدد محاور الحركة ومجالاتها وجداولها الزمنية. والتخطيط الاسترتيجى يضع أمن مصر الوطنى والقومى على رأس أولوياته، فمصر يجب أن تستعيد دورها الإقليمى والدولى اللائق.. كشريك رائد فى المنطقة التى غابت أو تم تغييبها عنها.. عمداً.. وكمداً! فأرض الكنانة تملك من المؤهلات – رغم أزماتها الطارئة والمؤقتة – ما يمكنها من استعادة هذا الدور الاستراتيجى الذى يحاول بعض الخفافيش انتزاع طرف منه!! ولكنهم فى نهاية المطاف سوف يتوارون عن الأنظار داخل الكهوف.. ليعرفوا أحجامهم الحقيقية. وإجمالاً.. فإن مشاكلنا عديدة ومعروفة.. ومنها البطالة والمواصلات والسكن والانحدار الأخلاقى الحاد الذى نشاهده فى كل مكان.. خاصة فى وسائل الإعلام التى انفصلت عن واقعها ومجتمعها وحضارتها.. وتقدم لنا وجبة مسمومة.. بالأمر المباشر!! الأهم من ذلك كله أن تعود لنا «فضيلة» التخطيط الفردى والجماعى.. الشعبى والرسمى.. بعد أن غابت عنا عقوداً.. واقتنصت من عمرنا.. عهوداً!!