«أمريكا لا تعرف إلا لغة المصلحة» حقيقة لا يمكن إنكارها، فالاستراتيجية الأمريكية تقوم على التحالف مع الزعماء والرؤساء الذين يحققون رغباتها وطموحها، وسرعان ما تنقلب عليهم إذا وجدت البديل الأفضل، أو شعرت أنهم فى طريقهم للسقوط، والتاريخ ملىء بقصص هؤلاء الزعماء الذين قدموا كل العون لواشنطن، ثم فوجئوا بانقلابها عليهم. و«مانويل نورييجا» زعيم بنما السابق، الذى عاد مؤخرا لبلاده بعد أكثر من 20 عاما قضاها فى سجون الولاياتالمتحدة وفرنسا، ليس أول ولا آخر حلفاء أمريكا الذين تخلت عنهم، حيث يعد رئيس جورجيا السابق «إدوارد شيفرنادزة» واحدا من أبرز حلفاء واشنطن، ولعب دورا أساسيا فى تفكيك الاتحاد السوفيتى لمصلحة الولاياتالمتحدة، وكان تابعها الأول الذى استجاب لكل مطالبها، ولكن رغم كل ذلك، كانت واشنطن الداعمة الأولى للثورة التى أسقطته عام 2003. تخلى أمريكا عن «شيفرنادزة» بعد كل الخدمات التى قدمها لهم سبب له صدمة كبيرة، مما دفعه للاعتراف بالعمالة لأمريكا فى حوار مع صحيفة «ديلى تليجراف» بعد أيام من سقوطه قائلا:(لقد قدمت كل ما طلبوه منى، بل وأكثر مما كانوا يتوقعون، لعبت دورا أساسيا فى انهيار الاتحاد السوفيتى، قدمت لهم قاعدة عسكرية على أراضى جورجيا بالقرب من الحدود الروسية، جلبت جنرالاتهم ليدربوا جيشنا ويقوده، ورغم كل ذلك خانوا الصديق الوفى لهم، خانونى ودبروا الانقلاب ضدى، بعد أن أمدهم السفير الأمريكى الذى كان يجلس معى على الدوام بكل تحركاتى وتصرفاتى، ذلك السفير الذى شاهدته بعد ساعة واحدة من سقوطى وسط المتظاهرين يهتف ضدى فى الميدان وأمام مبنى البرلمان، ولا أدرى لماذا فعلوا ذلك معى؟ ومن «شيفرنادزة» إلى تابع آخر هو الرئيس الأندونيسى الراحل «سوهارتو» الذى حكم بلاده لأكثر من 30 عاما، كان فيها الحليف القوى والحارس الأمين لواشنطن، وامتدادا استراتيجيا وأمنيا واقتصاديا لها، ولكن كالعادة عندما وجدت أمريكا أن حليفها القوى يترنح، تخلت عنه وأخذ إعلامها يتفنن فى تشويه صورته، وكشف عيوبه وأضراره لشعبه، ووصفه بالديكتاتور، واتهمه بالفساد وإساءة استعمال السلطة، والأكثر من ذلك اتهامه بالتحالف مع المد الشيوعى فى المنطقة بعد أن بقى محاربا لهذا المد لسنوات. وكانت نهاية سوهارتو هى إجباره على التخلى عن الحكم عام 1998 بعد خروج الآلاف مطالبين بذلك، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد طالب أفراد الشعب بضرورة تقديم سوهارتو وعائلته للمحكمة بتهم تتعلق بالفساد وسرقة المال العام، وبالفعل تم تقديم سوهارتو للمحاكمة، لكن بسبب حالته الصحية المتدهورة تم تأجيل محاكمته أكثر من مرة حتى توفى عام 2008 عن عمر يناهز 87 عاما. ومن الرئيس الأندونيسى الراحل إلى «أوجستو بينوشيه» – أحد جنرالات الولاياتالمتحدة فى أمريكا اللاتينية - حيث تولى رئاسة تشيلى عام 1973 بعد قيامه بانقلاب عسكرى مدعوم من الولاياتالمتحدة ضد الرئيس المنتخب «سلفادور الليندى» – الاشتراكى الذى ضرب مصالح الامبراطورية الأمريكية فى تشيلى- حيث لم تجد أمريكا سوى الجنرال بينوشيه قائد الجيش الذى قام بالتخلص من الليندى عن طريق اقتحام قصره وقتله، ليتولى بينوشيه الحكم، ويستمر حاكما لمدة 27 عاما كان فيها مخلب القط الأمريكى، وعلى الرغم من سياسات الجنرال الشيلى القمعية، وما قام به من تعذيب واعتقالات لمعارضيه، إلا أن واشنطن وقفت صامتة طالما مصالحها وأهدافها تتحقق، ولكن مع استمرار بينوشيه فى تلك السياسة سادت حالة من السخط بين أفراد الشعب، وازدادت الاحتجاجات، حتى انتهى الأمر إلى خلع الجنرال الشيلى عام 1990، وبالطبع تخلت أمريكا عن حليفها الذى تم تقديمه للمحاكمة عام 2004، ولكن المحاكمة لم تستمر، حيث توفى عام 2006 متأثرا بمرضه الناتج عن ضعف فى القلب، وتراكم المياه فى الرئتين. وإذا كنا نتحدث عن حلفاء أمريكا الذين تخلت عنهم، فلابد أن نذكر فى هذا الإطار شاه إيران السابق «محمد رضا بهلوى» الذى كان من أبرز حلفاء الولاياتالمتحدة فى المنطقة، بل يمكن القول أنه كان تابعا مطيعا لواشنطن، حيث وظف كل إمكانيات إيران ومواردها فى خدمة السياسة الأمريكية طوال 38 عاما حكم فيها شعبه، ولكن رغم ذلك فعند اندلاع الثورة الإيرانية، لم تقف أمريكا بجانب حليفها وتابعها، وسرعان ما تخلت عنه، حتى أن الرئيس كارتر أرسل موفد لبهلوى طالبه بالتخلى عن عرشه ومغادرة إيران فورا، لم يصدق الشاه أن تفعل أمريكا معه ذلك، وفى كتاب «أمريكا وإيران» للسفير الأمريكى السابق فى إيران «وليم سوليفان» قال: التفت الشاه نحوى، وقال لى إن هناك مؤامرة تحاك ضدى، وأنا لا استغرب أن يفعل ذلك السوفيت أو الإنجليز، لكن ما يحزننى أكثر من أى شىء أخر هو دور «سى آى إيه» فى هذه المؤامرة، سألت نفسى كثيرا ومازلت اسألها عن الأسباب التى جعلت الولاياتالمتحدة ومخابراتها تشترك فى مثل هذه المؤامرة.. ما الذى اقترفته ضد أمريكا كى تعاملنى بهذه الطريقة القاتلة؟ ويأتى الدور على واحدا من أكثر حلفاء واشنطن الذين أنقلبت عليه وهو «برفيز مشرف» رئيس باكستان السابق، والذى قضى تسع سنوات هى مدة حكمه فى خدمة أمريكا، والتفنن فى إرضائها وفقا لنظرة ضيقة الأفق، حتى ولو كان ذلك على حساب سيادته على باكستان وولاء الباكستانين له. فعندما رفضت طالبان تسليم بن لادن لأمريكا بعد اتهامها له بالقيام بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر، سمح برويز مشرف للقوات الأمريكية أن تحط بالقرب من منشآت باكستان النووية، كما سمح للطائرت الأمريكية بانتهاك السيادة الباكستانية لشن حملات جوية على أماكن يشتبه بوجود قادة القاعدة وطالبان فيها. ولم يكتف مشرف بذلك، بل قام أيضا بكثير من الأفعال التى تسببت جميعها فى طمس الهوية الإسلامية لبلاده إمعانا فى الرضا الأمريكى، فقد فرض العلمنة بالقوة فى مناهج التعليم التى غُيرت أكثر من أربع مرات تلبية للرغبات الأمريكية، وأغضب مشرف جميع الباكستانيين عندما أقال صانع القنبلة النووية والعالم الذرى الباكستانى عبد القدير خان من مهامه كمستشار لرئيس الوزراء للشئون العلمية ووضعه تحت الإقامة الجبرية بعد تحقيقات معه بطلب من حليفته الأمريكية، وبهذه الخطوة فتح مشرف الباب على مصراعيه أمام الولاياتالمتحدة لتكشف الستار عن كل ما تملكه باكستان من قوة نووية، كل هذه الانتهاكات لا تعدو كونها نقطة فى بحر جرائم مشرف ضد شعبه، فوصف الرجل بأنه مجرم حرب أو مرتكب جرائم ضد الإنسانية قليل فى حقه، ففى تحدى صارخ للوجدان الدينى أمر جنوده باقتحام المسجد الأحمر الذى كان يعتصم فيه المسلمون الرافضون لحكمه مما أسفر عن مصرع العشرات من المعتصمين، كل هذة الأفعال جعلت مشرف يسقط من أعين شعبه ويحفر قبره بيده، لذا زادت الضغوط من القوى السياسية، مما دفعه لإعلان استقالته من رئاسة باكستان بعد أن أدرك أن أكثر من ثلثى أعضاء البرلمان سيصوتون لعزله، كما تأكد بعد تصريحات كونداليزا رايس بأن الإدارة الأمريكية ترى أن مايحدث فى باكستان شأن داخلى متروك للقوى السياسية والشعبية فى باكستان من أنه تحول إلى مجرد ورقة محترقة لدى الأمريكان لايستحق منهم حتى أن يمنحوه حق اللجوء السياسى داخل أراضيهم.