لأن الموت حقيقة واقعة كتبها الله على جميع خلقه، فقد تعهد سبحانه أن يكتب على نفسه البقاء وعلى جميع عباده الفناء.. الموت الذى كتبه الله على كل من خلق أجل مكتوب، بل وقدر محتوم، وسيف مسلط على رقاب البشر كتبه الله على الصغير والكبير.. العظيم و الحقير.. من آمن به ومن كفر.. كتبه الله على الأنثى والذكر.. من يمشى على رجلين ومن يمشى على أربع. أما ملك الموت الذى يأتى بغتة فلا يعرف البدايات أو النهايات أو المقدمات أو المبررات ولا يحتاج إلى واسطة أو محسوبية ولا يتأثر بعلل أو أمراض، يأتى ليقبض الأرواح.. فتتكشف الأنوار وتتجلى الحجب فيعرف كل إنسان ما قدمت يداه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، هناك من يأخذ كتابه بيمينه، وهناك من يأخذه بشماله.. ف «كل نفس بما كسبت رهينة» «وما ربك بظلام للعبيد». إنها الحقيقة التى آمن بها الفقيد الراحل ووضعها نصب عينيه.. قالها صراحة: سبحانك لا إله إلا أنت وحدك.. أنت الله.. لا شريك لك.. لا ند لك ولا ولد، حقيقة سجلها قلمه، وترجمها فكرة واعترف بها ورقة وكشف عن تفاصيلها مدير مكتبه الأستاذ نبيل عتمان الذى قال على هامش حوارنا معه، كنت ملازما للفقيد حتى رحيله عرفت منه البداية، والنهاية تكشفت على لسانه عظمة الملك والملكوت، أحس بنهايته، وقال: يا نبيل لم يعد من الموت بد.. أنا لا أخاف الموت، ولا أهابه، ولكنى أرجوه أن ينتظر قليلا ليزداد يقينى بعظمة الخالق سبحانه.. إنه لا إله إلا هو. ويضيف عتمان سكرتير «الأستاذ» أنيس الخاص ورفيقه الخصوصى فى رحلة الحياة: إن «الأستاذ» كان يحس بقرب نهايته.. كان يعلم بدنو أجله، زهد فى الدنيا وما عليها.. كثيرا ما كان يبكى بينه وبين نفسه ويقول سبحانك أنت الله.. كان يدرك أن هناك من يتربص به ويشكك فى إيمانه، ويقول عنه إنه خارج زمرة المؤمنين، ساعتها كان يضحك «الأستاذ» ويبكى، يضحك عليهم.. ويبكى عليهم أيضا، أما هو فقد رأى الله سبحانه وتعالى فى ملكة وخاطبه من فوق عرشه قائلا له: إنك أنت الله لا شريك لك، كان يؤمن- كما يقول عتمان- أن هناك جنة، وهناك نار، وهناك عرض على الواحد القهار، وكان يؤمن أيضا أن الله لا يحتاج إلى واسطة لدخول الجنة أو تحريضا على دخول النار، فهو سبحانه الأعز الأكرم. الأستاذ أنيس منصور، آمن فى بداية حياته بحقيقة الفناء، فأطلق على كتابه القيم «البقية فى حياتى» رغم أنه يعد لوحة تذكارية لأيام الطفولة كان يدرك عظمة الوجود وحقيقة الفناء.. كان بحرا من الفيض والعطاء، ونهرا من الفيض والنماء، كان كما قال فى مقدمة «البقية فى حياتى» شلالا من القلق، وجندولاً من الأرق، وواديا من الفزع، يخاف من أمه ويخاف عليها، ويقلق على أبيه ويشتاق إليه، يقرأ القرآن ويتدبر معانيه يفكر فى النهاية، ويؤمن بها.. إنه أنيس منصور عزّى نفسه، واستسلم لخاتمته فقال فى بداية الطريق «البقية فى حياتى» وفى نهايته قال:أنعى إليكم نفسى.. رحمه الله الفقيد رحمة واسعة. هذا وكان قد انتقل الكاتب الكبير الأستاذ أنيس منصور إلى مثواه الأخير صبيحة يوم الجمة الموافق 21 أكتوبر الجارى، وتم تشييع الجنازة فى اليوم التالى من مسجد عمر مكرم والتى شارك فيها عدد كبير من العشاق والمحبين لأدب وفكر الفقيد الراحل، حيث تم دفنه بمقابر الأسرة بمدينة نصر. شارك فى تشييع الجنازة، ومراسم الدفن والعزاء أسماء لامعة فى سماء الأدب والثقافة والسياسة والاقتصاد ووزراء سابقين وحاليين ونجوم الفن والمجتمع، وكان على رأس المعزين د. عبد العزيز حجازى رئيس الوزراء الأسبق والفنان فاروق حسنى وزير الثقافة السابق، ود. عماد أبو غازى الوزير الحالى وأسامة هيكل وزير الإعلام، ود.مفيد شهاب وزير الشئون القانونية والمجالس النيابية السابق، ود. مصطفى الفقى رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشورى السابق، ود. على السمان رئيس لجنة حوار الأديان بمجلس الوزراء، والأنبا بسنتى أسقف المعصرة وحلوان، بالإضافة إلى رموز الإعلام وعلى رأسهم الكاتب الصحفى مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين السابق، والأستاذ صلاح منتصر، والأستاذ إبراهيم نافع، والأستاذ أسامة سرايا، وعدد كبير من الفنانين منهم يسرا، ولبلبة، ومحمود عبدالعزيز، وجلال الشرقاوى، وأشرف عبدالغفور، ونهال عنبر، ودلال عبدالعزيز. وقد فاز- رحمه الله- بألقاب علمية لا حصر لها منها: الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة، وجائزة الفارس الذهبى من التليفزيون المصرى أربع سنوات متوالية، وجائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عام 63، والتقديرية فى 81، وجائزة مبارك فى الأداب عام 2001. وعلى هامش الجنازة قال الكاتب الصحفى الأستاذ أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام السابق إن الأستاذ أنيس منصور كان فاكهة الصحافة المصرية، وسيظل - بفضل كتاباته وآرائه - فاكهة الصحافة لأجيال وأجيال لن ينازعه فيها أحد، وهذا لسبب بسيط، وهو أن الفقيد الراحل كان فاكهة نادرة، لم تكن عادية أو كمثل التى تظهر فى الشتاء وتختفى فى الصيف، والخلاصة على حد تعبير الأستاذ أسامة سرايا أن تلك الفاكهة لن تتكرر أو يجود الزمان بمثلها. سألته عن السر فقال: إنه قامة من قامات الصحافة من الوزن، لم يتلون أو يغير جلده.. كان يعمل من أجل مصر، لم ينظر إلى منصب أو جاه، لأنه ببساطة كان أكبر من كل مناصب الدنيا، آمن منذ أيامه الأولى أن العمر لحظة فقال على لسانه: أنعى إليكم نفسى أو البقية فى حياتى. ومن جهة أخرى فقد قالت تهانى البرتقالى مدير تحرير الأهرام بصوت مبحوح، وكلمات متقطعة، ونبرة لا تخلو من حزنٍ وأسى، ودموع ساخنة تعبر عن الحالة التى تمر بها، أن الفقيد الراحل كان السند الحقيقى للمرأة، لجأنا إليه عندما غاصت الرمال تحت أقدامنا، وطرقنا بابه، عندما وصدت الأبواب فى وجوهنا، كان مخلصاً وفياً عاشقاً، وأباً وحنوناً يسبر الأغوار، ويكشف الأسرار كان يفهمنا بالإشارة بعيداً عن التصريح والعبارة، نهلنا من علمه وفكره، فعاش وجداننا بذكره. وتتذكر أنها عندما كانت تعمل فى الكويت أقامت نقابة الصحفيين ندوة لمناقشة بعض القضايا المتعلقة بالسياسة، وعلاقة الكويت بدول الجوار، وكان من المفترض أن يجلس رموز الفكر والأدب والاقتصاد والسياسة فى الصفوف الأولى، فالمحاضر هو أنيس منصور، وكانت المفاجأة التى لم يتوقعها أحد، وهى أن الصفوف الأولى كانت من نصيب عشاق الأستاذ أنيس منصور، وهن السيدات اللائى حضرن ليرين بأم أعينهن بريق عينى الفقيد الراحل، ويستمعن إلى خواطره، وصولاته وجولاته فى عالم السياسة والفن.. أما الرجال فلم يجدن موطئ قدم. رفض الأستاذ أنيس منصور - على حد تعبير الأستاذة تهانى الجبالى العلاج على نفقة الأهرام، وآثر العلاج على نفقته الخاصة، وقال: إن من بشائر الخير أن من عنده فضل مال يعطى من لا فضل له.. هذه هى أخلاق الأستاذ أنيس منصور!! ومن جانبه قال الأنبا بسنتى أسقف المعصرة وحلوان فى تصريحات خاصة لأكتوبر أن الأديب الكبير يعد آخر العظماء الكبار فى زمن تعالت فيه الصيحات والصرخات. وأشار نيافة الأنبا أن الفقيد الراحل له مكانة خاصة فى قلبى، نظراً للمبادئ السامية، والأفكار الراقية التى كان يؤمن بها هذا الرجل، فهو أول من دعا - كما قالت كتبه ومواقعه - إلى إزالة بذور الفتنة، وإلغاء مظاهر التمييز، ودعم الدولة المدينة، وإعلاء قيم المساواة، واحترام سيادة القانون، والمحافظة على هيبة الدولة. وأضاف صاحب النيافة، أن الفقيد - رحمه الله - كان لطيف الدعابة، وله روح شفافة، وكان يجيد قراءة المستقبل، ولكونه ابن نكتة ومن عشاق مصر، فكأنه وقد اجتمع مع قداسة البابا شنودة على قلب رجل واحد، والذى قال أكثر من مرة: إن أنيس منصور شجرة مثمرة، نبتت على ضفاف النيل يستظل بظلها كل أبناء مصر والعالم.