فى ساعة مبكرة من يوم الثلاثاء الموافق العشرين من شهر سبتمبر الماضى أستطاعت حركة طالبان الأفغانية أن تحقق هدفا لها طال انتظاره.. حيث اغتالت يدها الأثمة اكثر مناهضيها ضراوة وبسالة.. إنه الرئيس الأفغانى السابق برهان الدين ربانى.. أحد أقطاب السياسة الأفغانية وأبرز المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسنا فى مقاومة الاحتلال السوفيتى لأفغانستان منذ قدومه فى عام 1979 وحتى رحيله وسقوط الحكم الشيوعى للدولة فى 1992.. وقد تولى ربانى رئاسة الجمهورية الأفغانية خلفا لرئيسها الأول صبغة الله مجددى وكان ربانى هو أول رئيس أفغانى منتخب إلى جانب رئاسته لمجلس قيادة المجاهدين الأفغان. وبرهان الدين ربانى لمن لايعرفه خاصة من الأجيال الحديثة والتى لم تواكب مراحل حياته الجهاديةومسيرته النضالية إعلاءلكلمة الإسلام وإحياء لتعاليمه السمحاء وفق كتاب الله الكريم وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم. فقد ولد برهان الدين ربانى بن محمد يوسف فى مدينة فيض آباد1940من أسرة سنية كريمة ذات أصول طاجيكية وتعلم فى مدارس هذه المدينة والتى كانت تهتم فى المقام الأول بتعليم العلوم الإسلامية مما ساهم فى تنشئته نشأة دينة أهّلته للالتحاق بكلية الشريعة بجامعة كابل ليتخرج فيها 1962لترسله أواسط الستنيات لبعثة دراسية إلى القاهرة ممنوحه من الأزهر الشريف ضمن البعثات المجانية التى كان يضطلع بها الأزهر خدمة للدارسين من رعايا الدول الإسلامية.. ورغم قصر مدة البعثة والتى لم تتجاوز العامين وقد حصل خلالها ربانى على درجة الماجستير فى الفلسفة الإسلامية، إلا أنها كانت علامة فارقة فى حياته حيث اكتسب خلالها خبرة كبيرة فى البحث والتحصيل للعلوم الإسلامية من كبريات الجامعات الإسلامية وصاحبة الريادة الكبرى فى هذا المجال وهو الأزهر الشريف منارة الإسلام الوسطى والمستنير فضلا عما اكتسبه من صداقات لأساتذته من العلماء الأجلاء وعلى رأسهم العالم الجليل الإمام الأكبر عبد الحليم محمود والشيخ عبد الله عطوة والشيخ الصواف وقد امتدت هذه الصداقات على مر السنين بعد عودته إلى موطنه الأصلى فى أفغانستان.. وقد كان لها الأثر الكبير فى تحديد خطوات حياته العلمية بعد ذلك حيث اقترح عليه د. عبد الحليم محمود موضوع أطروحته لرسالة الدكتوراه حول شخصية عالم اللغة الأفغانى عبد الرحمن جامى والتى حصل عليها ربانى بدرجة الامتياز وقد دفعه ذلك لأن يقدم أطروحه دكتوراه ثانية تناول فى متنها شخصية د. عبد الحليم محمود وآثارة الفاعلة فى إثراء العلوم الإسلامية كنموذج أمثل لما يجب أن يكون عليه الباحث الإسلامى عرفانا بدور الإمام الجليل فى نشر تعاليم الإسلام الوسطى الذى يتفاعل بإيجابية مع سائر الأديان بغية الوصول إلى صيغة توافقيةيكون من نتيجتها نشر الوئام بين هذه الأديان جميعا والتى هدفها الأول هو عبادة الله الواحد الأحد ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى ليعم السلام سائر أرجاء الأرض. *** ومن هذه الخلفية الدينية التى تنشد التفاهم الايجابى والبنّاء بين كل الأديان انطلقت فلسفة ربانى الإيمانية والتى ترجمت على أرض الواقع ليصبح رئيساً للمجلس الأعلى للسلام فى أفغانستان.. ورغم انقسام الحركة الإسلامية إلى حزبين - هما الحركة الإسلامية بقيادة برهان الدين ربانى والحزب الإسلامى بقيادة قلب الدين حكمتيار - فإن الهدف الأسمى الذى جمع الحزبين كان هو الإسلام المعتدل فى مواجهة التطرف المتشدد والذى قادته حركة «طالبان» التى قدمت فى حقبة التسعينات صورة مشوهة عن الإسلام أمام العالم أجمع كان من تداعياتها الغزو الأمريكى الذى سمى بغزو التحالف عقب أحداث سبتمبر 2001.. ولم تزل أفغانستان تعانى من جراء هذا الغزو وما أحدثه من اضطرابات تعانى منها المنطقة بأسرها بل تكاد تجاوزها إلى أرجاء العالم الإسلامى قاطبة مثلما يحدث فى العراق واليمن وليبيا والسودان على يد فلول تنظيم القاعدة والتى ولدت جميعا من رحم طالبان عقب سقوط الحكم الشيوعى الذى تولى الحكم لفترة وجيزة بعد الاحتلال السوفيتى لأفغانستان فى نهاية الثمانينات من القرن الماضى.. وإذا كان الحدث الأليم الذى أودى بحياة ربانى على يد اثنين من الانتحارين المنتمين لحركة طالبان وفق ما استجد من تحقيقات حول الحادث قد أعاد إلى المناخ السياسى فى أفغانستان أجواء الشك والريبة بعد ما استطاع الرئيس الأفغانى الحالى كرازاى أن يصطنع صيغاً توافقية يتيح للجميع من القوى السياسية المنتشرة فرصة للعمل الإيجابى من أجل عودة الوفاق المفقود للشارع السياسى الأفغانى. *** وكما أحدث ربانى جدلا سياسيا واسعا فى حياته حول تقييم دوره السياسى فقد يحدث نفس الجدل وإن كان بدرجة أكبر حول هذا التقييم بعد استشهاده حيث أخذت عليه بعض التيارات الديمقراطية ميل ربانى للانفراد بالسلطة وابتعاده عن إتاحة الفرصة للرأى الآخر ودعواه فى تبرير ذلك أن الظروف السياسية التى مرت بأفغانستان عبر العقود الثلاثة الاخيرة لا تؤهلها لممارسة ديمقراطية كاملة فى الحكم فى ظل الأجواء الإرهابية التى أوجدتها طالبان ودفع الشعب الإفغانى والحكومات الافغانية المتعاقبة ثمنها من جراء هذه الأحداث وإن كان التيار الدينى المعتدل يقر بشكل حاسم أن دور ربانى السياسى انطلق أساسا من قناعة لديه وبعد رؤية للحكم فى الإسلام وخاصة دولة الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول حيث انتهج الخلفاء منهج النبى صلى الله عليه وسلم رغم أن هذا الالتزام تفاوتت درجاته وفق مراحل دولة الخلافة الراشدة وما أعقبها من أحداث جسام ليس هنا مجال لذكرها.. وما يجدر ذكره هو أن ربانى حاول قدر استطاعته أن تحكم أفغانستان بما أنزل الله وقد توج ذلك باستشهاده فداءاً لها..ليكون عن جدارة واستحقاق شهيدا للوسطية الإسلامية لاحقا بكوكبة من الشهداء الأبرار فى أرض أنهكها التطرف والارهاب رهاب وكلاهما إرتبط إفكا وبهتانا بالدين الإسلامى الحنيف وهو منها براء حيث اتسمت صفاته بالسماحة والاعتدال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. *** وربما لا يعرف الكثيرون أن الشهيد برهان الدين ربانى كان يجيد اللغة العربية إجادة تامة مما جعله يستقى علومه الإسلامية من مصادرها الأصلية دون لبس أو تحريف ومن هنا كان تأثره الكبير بالأزهر الشريف جامعاً وجامعة حيث صرح فى اكثر من مناسبة سجلتها الفضائيات الإسلامية بأن الأزهر الشريف هو منارته الدينية والمفاجأة التى تغيب عن كثيرين أن مؤسستنا العريقة دار المعارف «كانت منارته الثقافية حيث ازدحمت مكتبة والده الشيخ ربانى بن محمد يوسف بمطبوعات دار المعارف من أمهات الكتب لكبار المؤلفين والمبدعين المصريين والعرب أمثال د. محمد حسين هيكل و عباس العقاد وطه حسين وغيرهم من أصحاب الذخائر الثقافية التى تكونت من خالالها ثقافات برهان الدين ربانى فى مختلف مناحى الحياة. ومن هنا كان حرصه الشديد على زيارة فروع المؤسسة المنتشرة فى ربوع مصر وخاصة فرع الإسكندرية الذى شارك فى افتتاحه حيث تم تجديده فى زيارته الأخيرة لمصر.. رحم الله الرئيس الأفغانى المسلم المستنير برهان الدين ربانى.