يصعب على الكاتب فى ظل الظروف الدقيقة والحرجة التى تمر بها مصر، وما تشهده من تغييرات جذرية وحادة.. يصعب عليه الابتعاد عن الشأن الداخلى.. خاصة فى هذه الأيام التى تشهد تغييرا نوعيا فى العلاقة بين الجيش والشعب جعلت كثيرين يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من الانحراف بهذه العلاقة إلى المسار غير الصحيح!.. غير أن ذلك لا ينبغى أن ينسينا أننا جزء مما يدور حولنا.. وأن هناك تأثيرات عميقة لما يحدث خارج مصر.. على داخل مصر.. وأتجه مباشرة إلى هدفى وأقول إن ما تشهده القضية الفلسطينية هذه الأيام - والتى تراجع الاهتمام بها إلى حد كبير فى مصر والعالم العربى - لن يقتصر تأثيره على الفلسطينيين وحدهم وإنما سيمتد التأثير بالقطع إلى مصر.. ليس فقط من منطلق انتماء الفلسطينيين والمصريين إلى القبيلة العربية.. وإنما أيضاً لأن ما يحدث على حدود مصر يمثل خطرا جسيما على مصر.. وليس من قبيل المبالغة القول بأن انفجار الوضع فى الأراضى الفلسطينية نتيجة إصرار إسرائيل على تدمير حلم الدولة الفلسطينية.. ستكون له تأثيراته - شئنا أو أبينا - على مصر!.. فإذا اتفقنا يمكن أن نمضى إلى التفاصيل.. والتفاصيل تحمل الكثير!.. نبدأ بالرباعية الدولية التى تواصل فشلها بنجاح منقطع النظير!.. الرباعية الدولية هى «التوليفة» السحرية والعبقرية التى تم تشكيلها من أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبى والأممالمتحدة.. والتى حصلت - رسمياً - على توكيل العالم لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى!.. الرباعية الدولية عقدت اجتماعات كثيرة وأصدرت قرارات عديدة ليس من المبالغة القول بأنها حبر على ورق!.. وقد اجتمعت مؤخراً لحث وتشجيع الفلسطينيين والإسرائيليين على استئناف مفاوضات السلام.. وكان مفترضا أن يصدر بيان ختامى لاجتماعها.. لكنها امتنعت عن إصدار هذا البيان و«امتنعت» هى كلمة مهذبة لكلمة أخرى غير مهذبة هى فشلت أو عجزت!.. لماذا فشلت الرباعية الدولية فى مهمتها أو حتى فى إصدار بيان يشرح نتائج مهمتها؟.. إذا عرُف السبب بُطل العجب كما يقولون.. والسبب أن إسرائيل تصر على اعتراف الرباعية بيهودية إسرائيل.. وقد اختلف أعضاء الرباعية فى هذا الشأن فاتفقوا على ألا يتفقوا!.. من الذى يوافق على فكرة يهودية إسرائيل؟ ومن الذى يعترض؟.. ليس ذلك هو المهم وإنما المهم أن إسرائيل تتمسك بهذا المبدأ بمنتهى القوة والإصرار.. ليس لأسباب دينية وإنما لأنه الباب الوحيد الذى سيمكن الحكومة الإسرائيلية من طرد السكان العرب الذين يعيشون على أراضيها والذين يطلق عليهم اسم «عرب إسرائيل»!.. فكرة الدولة اليهودية فكرة عنصرية لا مثيل لها فى العالم اليوم.. ومع ذلك تتمسك الحكومة الإسرائيلية بها وتصر عليها، وتحاول أن تناور بها.. ليس لتحقيق السلام وإنما لعرقلة السلام!.. السيد بنيامين نتنياهو - على سبيل المثال - أعلن أن الصيغة الوحيدة التى يمكن أن يقبل بها الكلام عن سلام قائم على العودة إلى حدود 1967.. والأساس الوحيد لأى مفاوضات للسلام هو أن تحصل إسرائيل فى المقابل على اعتراف بها كدولة يهودية.. السيد بنيامين نتنياهو يريد أن يقول للفلسطينيين والأمريكيين واللجنة الرباعية والعالم كله: اعترفوا بإسرائيل كدولة يهودية.. أتفاوض مع الفلسطينيين على حدود 1967.. هل يمكن أن نصدق هذا الكلام؟.. هل نصدق أن تلقى الحدأة بالكتاكيت؟!.. إذا كانت إسرائيل قد أعلنت عشرات المرات أن أى كلام عن حدود 67 هو نوع من الهذيان فكيف نصدق أنها أصبحت فجأة مستعدة للتفاوض مع الفلسطينيين على هذا الأساس؟!.. ولا تزال التفاصيل تحمل الكثير!.. *** السلطة الفلسطينية عادت من جديد تخاطب الولاياتالمتحدة وتطلب منها عدم استخدام «الفيتو» داخل مجلس الأمن لمنع الاعتراف بدولة فلسطينية فى الأممالمتحدة!.. الولاياتالمتحدة أعلنت من قبل، وأبلغت السلطة الفلسطينية أنها ستستخدم الفيتو فى مجلس الأمن ضد قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. وأنها وإن كانت تؤيد إقامة دولة فلسطينية فإنها تتمسك بأن يكون ذلك من خلال مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. منطق الولاياتالمتحدة يشبه منطق الذين يقولون حقاً يراد به باطل!.. صحيح أنه من الأفضل أن تقام دولة فلسطينية من خلال مفاوضات مع الإسرائيليين.. ضمانا لحل أو نتيجة ترضى عنها كل الأطراف.. لكن الصحيح أيضاً أن أحد هذه الأطراف يتآمر على الحل والنتيجة ويضع العراقيل لمنع الوصول إلى مثل هذا الحل والنتيجة.. ثم إن الولاياتالمتحدة تناقض نفسها وتناقض مبادئها!.. الولاياتالمتحدة مارست ضغوطا ومعها دول غربية للإسراع بالاستفتاء على الانفصال بين شمال السودان وجنوبه.. وفى احتفالات دولة جنوب السودان أعلنت سفيرة الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة أن ما حدث فى السودان هو انتصار لكل من يدعم حق الشعوب فى أى منطقة.. وأن الاستقلال ليس هدية منحت للجنوبيين وإنما جائزة فازوا بها!.. شمال السودان لم يكن يحتل جنوب السودان ومع ذلك اعتبرت السفيرة الأمريكية - المعبرة عن حكومة وسياسة أمريكا - أن انفصال الجنوب هو استقلال!.. لكن عندما يطلب الفلسطينيون المعاملة بالمثل.. عندما يطالبون باستقلال حقيقى وعندما يحاولون الحصول على حقهم كشعب.. تعترض الولاياتالمتحدة وتهدد باستخدام الفيتو!.. الولاياتالمتحدة فى الحقيقة تهدد بما هو أكبر من الفيتو.. فهى تلوح بقطع مساعداتها عن الفلسطينيين ومساعدات حليفاتها من الدول الغربية - وللأسف بعض الدول العربية - إذا ما أقدموا على مثل هذه الخطوة.. اللجوء للأمم المتحدة!.. السلطة الفلسطينية من جانبها حاولت إرضاء الولاياتالمتحدة فقالت إنها ستلجأ لمجلس الأمن ليس للحصول على اعتراف إنما لطلب عضوية لدولة فلسطينية.. وإذا لم يتحقق ذلك بسبب الفيتو الأمريكى المتوقع فإنها ستتجه للجمعية العامة ليس أيضاً للحصول على اعتراف وإنما للمطالبة برفع درجة تمثيل فلسطين داخل الأممالمتحدة.. من منظمة مراقبة إلى دولة غير عضو.. منتهى التسامح.. والتنازل.. ومع ذلك تتشدد الولاياتالمتحدة وتهدد وتتوعد بمعاقبة الفلسطينيين إذا تجرأوا وذهبوا إلى الأممالمتحدة!.. كيف يمكن الاعتماد بعد ذلك على الولاياتالمتحدة لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية؟!.. كيف نثق بعد ذلك فى وعود أمريكا ورئيسها صاحب المبادئ باراك أوباما؟!.. كيف نصدق أن هناك سلاماً قادماً؟!.. السلام أصبح فعلاً ماضياً.. ليس له أى مستقبل.. وإسرائيل تسعى بكل قوة لتحقيق ذلك!.. *** تواصل إسرائيل بمنتهى الإصرار تنفيذ سياستها الاستيطانية خاصة فى القدسالشرقية لكى يصبح السلام مستحيلا.. آخر تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن القدس بشطريها الغربى والشرقى ستظل عاصمة موحدة وأبدية للشعب اليهودى!.. وقاحة رئيس الوزراء الإسرائيلى بلا حدود.. فقد أعلن أيضاً أن العام القادم - عام 2012 - سيشهد تكثيفاً فى أعمال البناء والتطوير والانتهاء من عدد كبير من الوحدات السكنية الإسرائيلية.. داخل القدسالشرقية!.. إسرائيل لا تسعى فقط لابتلاع القدس وأخواتها من المدن الفلسطينية الأخرى.. لكنها أيضاً تقف بكل قوة أمام مشروع الدولة الفلسطينية.. إسرائيل لا تريد أن يكون هناك وجود لأى دولة فلسطينية.. أما إذا أجبرتها الظروف والولاياتالمتحدة.. فلن تلامس حدود هذه «الدويلة» الفلسطينية.. حدود إسرائيل!.. إسرائيل لم تخف أن من بين الحلول المطروحة التى تطلب من العالم التفكير فيه أن تقام الدولة الفلسطينية داخل سيناء بعد التخلص من غزة ونقل سكانها وتوطينهم فيها!.. إسرائيل - كما عبّر كاتب غربى اسمه «جوناثان كوك» - تسعى لتنفيذ عملية منظمة وممنهجة لإخفاء ما يسمى بفلسطين.. سواء من الخريطة الجغرافية أو من ضمير وذاكرة العالم!.. وليس خافيا على أحد أن إسرائيل تحاول استغلال الظروف المعقدة التى تمر بها مصر والعالم العربى.. وليس خافيا على أحد - وهذا هو الأهم - أن إسرائيل تسعى لإغراق مصر واستمرارها مشغولة ومشلولة بظروفها المعقدة!.. *** الشأن الداخلى كما ذكرت فى البداية يمر بظروف دقيقة وحرجة تشغلنا عن أمور كثيرة.. لكن لا ينبغى أن تشغلنا عن القضية الفلسطينية ومتابعتها ودعم الفلسطينيين.. وأن يكون هذا الدعم من الشعب قبل أن يكون من الحكومة أو وزارة الخارجية.. لأننا عرب.. كما ذكرت فى البداية أيضاً.. ولأن القضية على حدودنا.. وليس هناك معنى لكلام أكثر!..