عندما تذهبون إلى واشنطن والعواصم الأوروبية سوف تحظون بنفوذ وثقل أكبر بعد التحول الديمقراطى.. فمصر بعد الثورة تتجه نحو القيام بدور ريادى ومؤثر «إقليمياً وعالمياً».. هذا ما قاله د. فولكر بيرتس مدير المعهد الألمانى للشئون الدولية والأمنية خلال ندوة حول الثورات العربية شهدتها القاهرة مؤخراً.. وسعدت بالمشاركة فيها.. مع نخبة من الباحثين من تونس وتركيا وألمانيا.. إضافة إلى البلد المضيف.. هذه الكلمة عميقة الدلالة تشير إلى أن العالم يعرف قدر مصر بعد الثورة.. وأن مستقبلها - رغم كل الصعوبات والمشاكل والمخاطر - سوف يكون أفضل وأكثر إشراقاً! ونحن نلاحظ أن الزوار يتقاطرون من مختلف دول العالم نحو قاهرة المعز.. الكل يريد أن يتحسس.. والبعض يتجسس.. والهدف هو اكتشاف آفاق الثورة ومتى ستبدأ انطلاقة العملاق المصرى.. وكيف يمكن احتواء هذه الثورة وإقامة علاقات جيدة معها وتوظيفها لخدمة مصالحهم واستراتيجياتهم؟. ومن هذا المنطلق جاءت زيارة وفد الكونجرس الأمريكى لمصر الأسبوع الماضى.. بتشكيل منتخب ورفيع المستوى.. ضم مرشحين سابقين للرئاسة الأمريكية.. وكبار رجال الأعمال والشركات متعددة الجنسيات، والأهم من ذلك كله فإن الوفد الأمريكى مثَّل الحزبين الرئيسيين (الديمقراطى والجمهورى)، وكما قال السيناتور الديمقراطى جون كبيرى: لقد جئنا معاً (ديمقراطيين وجمهوريين) واتحدنا من أجل مصلحة مصر.. وعندما يرتبط الأمر بمصر تذوب اختلافاتنا من أجل خدمة طموحات الشعب المصرى. أضاف كيرى: لقد استلهمنا الكثير من ميدان التحرير ومازال مصدر إلهامنا.. ونحن نؤمن بأن مصر تمثل ربع العالم العربى.. ولكن ما ينقصها فعلياً نقل قيم الثورة إلى سوق السلع والمنتجات لأن هذه الأماكن هى الوحيدة التى تكفل التغيير الحقيقى. بداية يجب أن ندرك أن الولاياتالمتحدة هى القوة العظمى الأولى فى العالم.. رغم ما تعانيه من مشاكل ضخمة، كامنة وظاهرة، لذا فإن منطق العلاقات الدولية يفرض علينا ضرورة التعامل معها.. وفق أسس واضحة وجديدة تتوافق مع مرحلة ما بعد الثورة، فمصر 25 يناير أكثر قوة واحتراماً وتقديراً.. بغض النظر عن المشاكل الطارئة والمشاهد المؤسفة التى نراها فى أرض الكنانة.. نعم هناك فارق هائل بين مصر الثورة.. ومصر مبارك التى ضاعت وانحدرت إلى أسوأ المراتب.. حتى أن دولاً فقاعية صغرى تفوقت عليها فى بعض المجالات وسحبت منها البساط والريادة التى تستحقها عن جدارة، هؤلاء الهامشيون سرقوا الريادة الإعلامية والثقافية بل والاقتصادية.. للأسف الشديد.. ليس بسبب قوتهم.. ولكن نتيجة ضعفنا وتراجعنا فى عهد النظام البائد. من هذا المنطلق يجب أن نتعامل مع العالم.. وأن يتعامل العالم معنا.. وأولهم القوة العظمى الأولى.. من منطلق الاحترام المتبادل والتكافؤ السياسى.. فلسنا تابعين لأية دولة أو استراتيجية.. ولن نخضع لأية إملاءات أو شروط، فالشعب الذى كسر القيود والأغلال فى ميدان التحرير.. قادر على أن يحقق المعجزات فى كل الميادين. الأساس الثانى للعلاقات المصرية الأمريكية هو توسيع نطاق التعاون بما لا يقتصر على عملية السلام أو مكافحة الإرهاب أو التعاون الاقتصادى.. إلخ القضايا والملفات المعروفة والمعتادة، يجب أن نبادر بإعادة صياغة آليات ومفاهيم الحوار الاستراتيجى مع واشنطن فى ضوء المتغيرات الجديدة التى تشهدها مصر والمنطقة. ونحن لا نقل أهمية وثقلاً ونفوذاً عن تركيا أو إيران أو حتى الحليفة المدللة إسرائيل، بل لا تتجاوز إذا قلنا إننا نستطيع تقديم نموذج أفضل من كل هؤلاء إذا نجحنا فى توظيف قدراتنا وموقعنا الجيوبولتيكى والحضارى والثقافى على النحو الأمثل، ومع احترامنا لخطط الأصدقاء والإعداء لبناء تحالفات تقلل من شأن مصر أو تحاول أن تتجاوزها.. فإن المبادرة والإرادة المصرية تستطيع فرض مكانتها ودورها الحيوى والمحورى فى الشرق الأوسط والعالم. فمصر تستطيع أن تقدم نموذجاً ملهماً للديمقراطية والحرية والحكم الرشيد.. بعد أن عانت عشرات السنين فى ظل الاستبداد والفساد، ومصر ذات الحضارة العريقة - كما اعترف أعضاء الوفد الأمريكى - قادرة على إعادة بناء ذاتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.. بمالا يهدد أحداً.. بل يحتوى الجميع ويتعايش معهم على أساس الحقوق المشروعة والواجبات المحددة. وإذا كان كيرى ومكين قد عرضا مشروع صندوق مساعدة مصر الذى أقره مجلس الشيوخ الأمريكى.. فإن هذه المساعدات يجب ألا تكون مشروطة أو مفروضة، نحن لا نريد المساعدة من منطلق الضعف أو الحاجة لمواجهة أزمات اقتصادية طارئة.. ولكن نريد التعاون والاستثمارات الحقيقية الجادة التى تفيد الاقتصاد المصرى.. وتصب فى مصلحته. ومع ترحيبنا الشديد بالشركات الأمريكية العملاقة التى رافقت الوفد الأمريكى.. فنحن ندرك خفاياها وألاعيبها.. ولا نريد أن تكون مجرد وسيلة للضغط السياسى والاقتصادى، وإذا كانت تسعى وتخطط للعمل وفقاً لآليات السوق.. وبوضوح شديد.. فأهلاً ومرحباً. وإذا كانت مجرد وسيلة لأطراف أخرى - إقليمية ودولية - فلا.. والف لا.. وقد يجادل البعض قائلاً: كيف تقولون هذا وأنتم فى أشد الحاجة إلى كل دولار وكل سنت من أجل الاستثمار وتوظيف ملايين الشباب؟! نعم نحن ندرك أن لدينا مشاكل هائلة.. خاصة مشكلة البطالة.. ولكن لدينا بدائل عديدة لإعادة بناء الوطن اعتماداً على الذات وانطلاقاً من أرضنا.. وبسواعد أبنائنا.. صُنّاع أعظم ثوراتنا.. يجب أن تكون آليات وأموال صندوق مساعدة مصر محددة وأن يكون هدفها خدمة المصلحة المصرية.. والأمريكية أيضاً.. حتى نكون واقعيين، وعندما تكون مصر ديمقراطية ومستقرة ومزدهرة اقتصادياً.. فإن هذا يصب فى مصلحة الأمن القومى الأمريكى، فالفقر والمرض والجهل والأزمات هى أفضل مناخ للتطرف والإرهاب.. ومع ذلك فلا يجب أن تستغل الولاياتالمتحدة قضية الإرهاب للابتزاز السياسى أو لفرض شروط معينة.. أو حتى للتدخل فى مسار العملية السياسية والديمقراطية. وعندما يتحدث كيرى عن نقل «قيم الثورة» إلى سوق السلع والمنتجات باعتبارها الوسائل الوحيدة التى تكفل التغيير الحقيقى.. فإنه لا يصيب الهدف.. بل بخطئه، فقيم الثورة لا تقتصر على السلع والمنتجات.. بل على الفكر وعلى بناء الأسس الديمقراطية وترسيخ الحريات العامة وضمان المساواة بين كافة المواطنين، والتغيير الحقيقى الذى ننشده يكمن فى العقول والنفوس والممارسات السلوكية على أرض الواقع.. هذا هو منطلق التغيير الثورى الحقيقى.. وليس السلع والمنتجات، فالثورة لم تقم من أجل السلع والمنتجات.. بل من أجل تخليص مصر من براثن نظام فاسد وبائد.. ثم إعادة بنائها على أسس جديدة وراسخة. وألطف ما قرأته من تصريحات «كيرى» هو أنه عندما يتعلق الأمر بمصلحة مصر.. فإن الأمريكيين يتوحدون! ومع احترامنا وتقديرنا لمكانة وكلمات السيناتور الديمقراطى.. فإنه يتحدث بلغتنا الحميمية الأنيقة من أجل كسب ود المواطن البسيط، ولكن التقييم الواقعى يقول إن كيرى ومكين وأعضاء الوفد الأمريكى.. بل وكل الأمريكيين يعملون من أجل مصلحة بلادهم.. أولاً وأخيراً.. كما يجب أن نعمل نحن من أجل مصلحة مصر، وهذا ليس عيباً فيهم بل ميزة كبرى.. يفتقدها الكثيرون فى أرض الكنانة!