فى علوم القانون والسياسة.. هناك العديد من المقولات الحاكمة التى لا يجوز مخالفتها أو الالتفاف حولها، منها مثلا.. ما يسمى بالإرادة الشعبية، وأن الشعب مصدر السلطات وأنه لا خلاف مع النص، وأن الرأى للجميع والقرار للأغلبية.. وغيرها من التعبيرات الجامعة المانعة التى توافقت عليها جميع الأمم من الشرق إلى الغرب. ودائما.. وفى أعقاب الثورات الشعبية ما يحدث «خلاف» بين القوى السياسية المختلفة حول أولويات المرحلة الجديدة.. وغالبا ما تلجأ «الجهة المسيطرة» إلى الشعب.. حيث إن الشعب هو مصدر السلطات.. للاحتكام حول هذا الخلاف فى صورة «استفتاء» على عدد من الإجراءات الجديدة فى توقيتات زمنية متتابعة.. تشكل مع بعضها «خريطة طريق» لتلك المرحلة المؤقتة والتى تنتهى بانتخابات عامة لاختيار السلطة الجديدة للحكم. ونحن فى مصر لم نفعل غير ذلك، حيث تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة دفة الحكم فى البلاد بتفويض من الرئيس السابق بعد تنحيه وبموافقة ضمنية من جميع فئات الشعب، وقد بادر المجلس بالإعلان أنه لا يسعى للحكم ولن يبقى فى السلطة إلا ما تقتضيه مصلحة البلاد وقدرها بمدة 6 أشهر فقط، متعهدا بالمحافظة على استقرار البلاد والحفاظ على أمنها القومى، وقرر تشكيل لجنة لإعداد إصلاحات عاجلة ومؤقتة فى الدستور القائم متعهدا بإجراء انتخابات عامة حرة وشفافة لاختيار نواب الشعب ومن بعدهم رئيس الجمهورية الجديد.. مع انتخاب جمعية تأسيسية لإعداد دستور جديد ودائم للبلاد. وقد انتهت اللجنة المكلفة بالتعديلات الدستورية من مهامها فى أسرع ما يمكن والتى تضمنت مدة رئيس الجمهورية وكيفية انتخابه وضرورة تعيين نائب أو أكثر له، وكذلك انتخاب أعضاء البرلمان الجدد، وأعضاء الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداد الدستور وغيرها من الإجراءات التى اعتبرت وقتها «خريطة طريق» للمرحلة المؤقتة التى يتولى فيها الجيش أمور الحكم فى البلاد. وقد أفصح الشعب- مصدر السلطات كلها- عن إرادته بالموافقة وبأغلبية ساحقة على تلك الإجراءات وما تضمنته من بنود مختلفة، أى أن الاستفتاء كان كاشفا عن الإرادة الشعبية العامة والتى أفصحت عن رغبتها الملحة فى الإسراع بعودة الاستقرار للبلاد بعد التخلص من نظام الحكم السابق. ذلك على الرغم من الحملات الإعلامية المكثفة من قبل بعض الهواة من السياسيين الجدد أو القدامى، والذين طالب بعضهم بمجلس رئاسى لإدارة البلاد، وطالب البعض الآخر بانتخاب الرئيس أولا، بينما ألح فريق ثالث بأن تكون الأولوية لوضع دستور جديد ودائم للبلاد. ولأن الشعب «عارف مصلحته» كما يقول أهلنا فى الريف.. فلم يلتفت لتلك الدعاوى وإن كان لم يستنكرها أو يرفضها فالخلاف فى الرأى أمر صحى ومطلوب ودليل على حيوية الشعوب، ولكن مادام قد حسم الأمر وقررت الأغلبية رأيها فكان يجب أن تتوقف الأقلية عن ديكتاتوريتها وإلا ما معنى الشعار الذى ترفعه فى وجهنا وهو «الاحتكام للصندوق» عند إجراء الانتخابات العامة! *** لقد التزم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالمشروعية وما كشفت عنه الإرادة الشعبية، وبدأ فى اتخاذ الإجراءات التنفيذية المتتابعة.. ومنها إصدار إعلان دستورى من حوالى 64 مادة لإصباغ الشرعية على فترة الحكم المؤقت، ثم إصدار مراسيم بمشروعات قوانين للأحزاب والانتخابات وغيرها، وهى قوانين سوف تعيد للسياسة فى مصر حيويتها وتعتمد على المنافسة العادلة والمشروعة بين القوى السياسية المختلفة، فبالنسبة لقانون الأحزاب الجديد ضرورة توافر الجدية وشفافية التمويل والتمثيل لكافة فئات الشعب ومناطقه الجغرافية، وكذلك الأمر بالنسبة لقانون مباشرة الحقوق السياسية (الانتخاب) حيث يتم بالرقم القومى وطبقا لشعار (قاضى لكل صندوق) وبإشراف لجنة عامة بتكوين قضائى بداية من إعداد الكشوف وحتى الانتهاء من إعلان النتيجة. كل ذلك تم فى فترة زمنية وجيزة وفى ظل انفلات أمنى وتراجع اقتصادى بسبب تداعيات الثورة.. وهو أمر معروف ويحدث فى أعقاب كل الثورات المشابهة، ولكنه لم يعطل أو يؤخر الخطوات التنفيذية المطلوبة للإسراع بعودة الاستقرار للبلاد والتى سوف تكتمل بإجراء الانتخابات العامة لاختيار نواب الشعب الجدد ومن بعدهم رئيس الجمهورية الجديد. والغريب فى الأمر أن البعض قد عاد إلى سيرته الأولى.. إلى ما يسمى بالجدل البيزنطى المعروف «البيضة أم الفرخة أولا».. وكأنه لم يحدث استفتاء ولم تفصح الإرادة الشعبية عن رغبتها وموافقتها على ما خطط له وما يتم تنفيذه. والأغرب أن تصدر التصريحات من أعضاء الحكومة الانتقالية أو حكومة تسيير الأعمال مع أن نصفهم من السياسيين والنصف الآخر من القانونيين! حيث طالب بعضهم بضرورة تأجيل انتخابات مجلس الشعب، وطالب البعض الآخر بانتخاب الرئيس أولا! لقد بدا الأمر وكأن المجلس العسكرى فى واد والحكومة فى واد آخر مع أن المجلس هو الذى يحكم بينما الحكومة تدير العمل اليومى فى البلاد، ولست أفهم لماذا الخلاف العلنى؟ هل هو استجابة لأصحاب الصوت العالى من المعارضة الجديدة أم أنه البحث عن شعبية غير منطقية ولاسند لها من القانون والعرف؟ أم أنه «جس نبض» لا نعلم نحن المواطنين دوافعه أو أسبابه؟ ولأن المسألة بدت كأنها منافسة أو مزايدة بين التصريحات الإعلامية المختلفة، فقد دخل بعض مرشحى الرئاسة على الخط أيضا مطالبين بأن تكون الأولوية للانتخابات الرئاسية ثم تليها انتخابات البرلمان.. ويبدو أن البعض يريد أن يظل فى «الكادر» الإعلامى أو أن كثرة التصريحات هى الوسيلة الأفضل لمزيد من الشهرة والشعبية.. وهو فهم خاطئ واعتقاد غير صحيح لأن الشعب «عارف مصلحته» على خلاف ما يظنه المرشحون والهواة من السياسيين الجدد! *** إن الحجة الدائمة والمملة التى يسوقها هؤلاء الجدليون أن الإسراع بالانتخابات البرلمانية سوف يساعد على عودة «فلول» الحزب الوطنى إلى الساحة السياسية مرة أخرى، وأن هؤلاء هم الذين سوف يضعون أو على الأقل ينتخبون أعضاء الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداد دستور جديد للبلاد. وهى حجة لا تثبت كثيرا أمام العديد من الحقائق الدامغة، أولها أن الشعب المصرى يتمتع بذكاء ووعى سياسى فطرى يؤهله لحسن الاختيار بين كافة من يعرضون أنفسهم عليه لتمثيله فى البرلمان، ثم إذا كنا سنحتكم للصندوق طبقا للأعراف الديمقراطية المعروفة فلماذا يتخوف البعض من الاختيار الشعبى الصحيح خاصة إذا كانت الانتخابات ستجرى فى علنية تامة وتحت إشراف قضائى كامل. ثم من قال إن أعضاء مجلس الشعب القادم هم الذين سيضعون الدستور الجديد؟.. ألم يقرأ هؤلاء نص التعديل الدستورى الذى يقول إن أعضاء مجلسى الشعب والشورى- ومن غير المعينين- سوف ينتخبون أعضاء تلك الجمعية الذين قد يكون بعضهم من نواب الشعب، ولكن الغالبية سوف تكون من الخبرات القانونية والسياسية التى تذخر بها البلاد،بمعنى أنه لا يوجد نص صريح أن يكون أعضاء الجمعية بالكامل من نواب البرلمان، كما أن الأهم من كل ذلك أن ما سوف تنتهى إليه «لجنة الدستور» سوف يعرض للنقاش العام من قبل جميع طوائف الشعب.. ثم يعرض للاستفتاء عليه بعد بلورته فى صورة نصوص قانونية ملزمة. *** نحن لا نخترع العجلة.. فقد اخترعت من زمان.. وإنما نعمل كما يحدث فى كل الأمم شرقها وغربها، والهدف النهائى لا خلاف عليه وهو عودة الاستقرار والحكم الديمقراطى للبلاد.. فياأيها الفرقاء تعالوا إلى كلمة سواء.. وانحازوا إلى الشعب الذى كشف عن إرادته ورغبته. وكلكم تعلمون أنه «عارف مصلحته كويس وبلاش تزايدوا عليه»!