«الثورة المصرية لم تقم كى توجه مطالب إلى الدول الأخرى، فنحن نفهم أن المصريين يجب أن يحققوا طموحاتهم وأهداف ثورتهم بأنفسهم.. ثاروا من أجل تحرير بلادهم من الظلم والفساد.. لقد انطلقت الثورة من مصر.. ومن أجل تحقيق أهداف مصرية.. ولم توجه الثورة مطالبها إلى برلين أو بروكسل».. كان هذا رد رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الألمانى «فولكر كاودر».. على سؤال مهم عن كيفية مساعدة أوروبا للثورة المصرية. ورغم وضوح وصراحة الإجابة.. فإنها تعكس عدة نقاط مهمة.. أولها: يتعلق بالاعتماد على الذات.. والمثل البسيط يقول «ماحك جلدك مثل ظفرك» فمهما قدم الآخرون من دعم ومساعدة.. فإن نقطة الانطلاق الأساسية هى أننا نحن الذين نضع اللبنة الأولى لبناء مصر بعد الثورة.. وقد تأتى مساعدات خارجية أو لا تأتى.. وقد تفرض علينا شروطها. ولكن فى كل الأحوال لن يبنى مصر سوى المصريين ولن يحقق طموحاتها سوى أبنائها. المحور الثانى الذى نستخلصه من هذا الرد الألمانى الصارم هو: أننا يجب أن نفهم أن الثورة تعنى التضحية.. وقد ضحينا بفلذات الأكباد فى ميادين التحرير بمصر كلها.. ونقطة دم واحدة من أحد أبنائنا وشهدائنا لا تعادلها كنوز الكون كله، ومن هذا المنطلق يجب أن ندرك أن التضحية مطلوبة، ومفروضة علينا خاصة خلال المراحل الأولى من الثورة ويجب أن نتحمل تبعاتها وأعباءها وآثارها.. مهما عظمت ومهما طال الزمن.. ولن يطول بإذن الله، رغم الغيوم الكثيفة التى نراها الآن. المحور الثالث هو: أن الثورة تعنى تغييرا شاملا فى منهج الحياة وفى الأفكار والتوجهات وفى بناء المؤسسات.. بدءا ب «مؤسسة البيت» وانتهاء بمؤسسة الرئاسة. نعم نحن نشهد الآن محاولات للتغيير ولكنها مقصورة وناقصة ولا تحقق طموحات شباب الثورة، ولهم كل الحق فى الاعتراض والغضب من كل ما يحدث من مؤتمرات وإصدار قوانين رئيسية تصوغ مستقبل مصر الثورة.. دون مشاركة صناعها ومفجريها. وحتى الآن يرى الشباب أنهم مهّمشون.. ليس فقط فى المؤتمرات والحوارات والقوانين والمراسيم التى تصدر، ولكنهم مهمشون عن الحكم والمشاركة الفعلية فى إدارة شئون مصر. وللأسف الشديد مازلنا نحن الكبار والعواجيز نحكم ونتحكم ونوجه ونقرر.. وعلى الجميع أن يسمع ويطيع وينفذ الأوامر! ليس لائقا أن يكون رؤساء مؤتمرات الحوارات واللجان (أيا كانت مسمايتها وأسماء أصحابها) من الكبار الذين تجاوز الواحد منهم السبعين أو الثمانين.. يجب أن ندفع الشباب إلى مواقع القيادة والمسئولية بما يتناسب مع حجم الإنجاز التاريخى العظيم الذى حققوه لمصر فمن حقهم أن يجنوا ثمار ثورتهم الآن.. وليس لاحقا. لقد جرب الكبار من كل الاتجاهات حكم مصر والتحكم فيها على مدى عقود، فكانت النتيجة التى نراها من فساد واستبداد فى كل مكان بصورة أذهلت الجميع حتى المفسدين أنفسهم! فلماذا لا نجرب الشباب ونعطى الفرصة لأصحاب الثورة الحقيقيين الذين ضحوا بأغلى ما لديهم.. بل إنهم أثبتوا قدرة رائعة على استشراف آفاق المستقبل ونجحوا فى إدارة الثورة فى أخطر مراحلها. *** نعود إلى حوارى مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الألمانى وأعضاء اللجنة.. فعندما سألت فولكر كاودر عن علاقتهم بالإخوان المسلمين؟! قال لى: نحن لا نخشى وصول الإخوان إلى الحكم فى مصر إذا التزموا بشروط السياسة ومبادئ الديمقراطية، إضافة إلى التزامهم بتحقيق أهدافهم سلميا ودون عنف، واللعبة السياسية ليست استعراضا أحاديا (one man show). والحقيقة أن موضوع الإخوان أصبح أحد المحاور الأساسية للحياة العامة فى مصر والمنطقة والغرب.. والإخوان أنفسهم بدأوا ينخرطون فى العملية السياسية من خلال حزب رسمى وبعرض خطاب جديد أكثر اعتدالا ووضوحا.. بل إن الواقع يشير إلى اتصالات إقليمية ودولية واسعة تجرى بين الإخوان ومختلف الدول والأحزاب، وهذا ليس إقرارا بالأمر الواقع فقط.. بل استعدادا لقبوله والتعامل معه وايجاد صيغة براجماتية للتعاون بين الإخوان وكل هذه القوى. وليس أدل على ذلك من أن يشمل حزب الحرية والعدالة مئات الأقباط.. بل إن أحدهم تقلد منصب نائب رئيس الحزب. هذا هو جانب من صورة (مصر الجديدة) التى نشهدها ونعايشها.. فمصر تتغير بسرعة فائقة وبصورة ربما تكون جذرية، ولكننا لا ندرك كيف ستنتهى وإلى أين تسير، ولكن المؤكد أنها تسير فى الطريق الصحيح بمشيئة الله رغم آلام «تسنين الديمقراطية» كما ذكرها لى السياسى السودانى المخضرم الصادق المهدى فى حديث قديم معه، وربما تكون آلام تسنين الديمقراطية أقل إيلاما من مخاض الثورة المصرية.. فهذا المخاض أشد صعوبة وعسرا. خلال حوارنا مع وفد البرلمان الألمانى.. أشاروا إلى أن أهم إنجازات الثورة المصرية هو إزالة حاجز الخوف من الاضطهاد والتعذيب، ولكن هناك نوعاً آخر من الهموم والمخاوف تتعلق بالأمن والبطالة والاقتصاد والمسار الذى ستؤل إليه العملية الثورية برمتها. بمعنى آخر.. فإن الزمن يلعب دورا حاسما فى تحديد مصير الثورة. ويبدو أن الغرب.. والألمان خاصة يقرأون الواقع المصرى والعربى بصورة أدق لأنهم - بحكم موقعهم الجغرافى - يتابعون التطورات من الخارج، ولديهم رؤية أشمل ومعلومات أوسع، فحقيقة الأمر أن أعظم إنجازات الثورة المصرية هو كسر حاجز الخوف وإعادة اكتشاف جوهر المصرى الأصيل الذى علاه صدأ الطغيان والفساد والاستبداد. نعم لقد أعاد أبناؤنا اكتشافنا واكتشاف أنفسهم وأعادوا للمعدن النفيس بريقة ولمعانه! ولكن زوال الخوف لا يعنى طغيان الفوضى والبلطجة والتجاوزات بكل أنواعها.. يجب أن ندرك أن هناك حدودا للحرية والديمقراطية، نعم نفجر الطاقات والقدرات المبدعة لخدمة الوطن وزيادة الإنتاج والابتكار فى كل مجال.. بما فى ذلك السياسة والأدب والإعلام والثقافة.. إلخ.. ولكن مع الالتزام بسيادة القانون واحترام الرأى الآخر.. مهما اختلف معى أو اختلفت معه. وإذا كنا قد قهرنا الخوف من الاستبداد والفساد والتعذيب فإن مخاوف الأمن والاقتصاد والمستقبل هى التهديدات الجديدة.. كما يراها الغرب عامة والألمان خاصة وهى حقائق واضحة وتحديات قائمة.. ولكننا نستطيع بالإرادة وبالتخطيط السليم والإدارة الجيدة لثروات مصر.. نستطيع مواجهة كل هذه التحديات والتغلب عليها. سؤال آخر وجهته لرئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الألمانى.. حول تأثير الثورات العربية على إسرائيل؟!.. فرد قائلا: كلما تقدمت الدول العربية نحو الديمقراطية نشأ مفهوم أمنى جديد بالمنطقة، ولقد تعلمنا فى أوروبا ألا يبحث كل طرف عن أمنه فقط فى مواجهة الآخرين ولكن يجب أن يتم البحث عن الأمن المشترك لدول المنطقة، وأساس هذا الأمن هو الثقة فى الديمقراطيات الجديدة بالمنطقة. كان هذا رد فولكر كاودر، ولكننى اختلف معه فى أن يجتزئ المشكلة مع إسرائيل فى الأمن.. فهذه هى الرؤية الإسرائيلية التى تحاول دائما أن تفرضها على الآخرين. *** بقى أن ندرك أن هذه الوفود التى تزور مصر من كل صوب وحدب لا تهنأ أو تبارك الثورة أو تبدى إعجابها بها.. كما قد يظن البعض خطأ.. بل إنهم جاءوا لتأمين مصالحهم ومعرفة مسارات الثورات العربية، خاصة مصر التى تقود المنطقة.. بل إن البعض مازال يتوجس ويخشى مستقبل أمة سوف تنهض وتنطلق انطلاقة كبرى.. بمشيئة الله.