فى الرابع من هذا الشهر رحل عن عالمنا الإذاعى القدير طاهر أبو زيد صاحب أكثر البرامج الإذاعية جماهيرية وذيوعا بين المستمعين ورحلت معه ذكريات غالية لباقة من رواد الإذاعة المصرية ذات الوهج الإعلامى الأخاذ والتى كان طاهر أبو زيد آخر أغصانها المزهرة. وقد تكونت على أيديهم ثقافات الشعب العربى من المحيط إلى الخليج، حيث كانت الإذاعة المصرية هى الرائدة والنافذة الوحيدة التى يطل من خلالها هذا الشعب على مختلف ثقافات العالم. وقد أرسى طاهر أبو زيد مع رفاقه الرواد قواعد الفن الإذاعى فى الوطن العربى والتى كانت تمثل هذه القواعد بجدارة وامتياز حجر الأساس لما نشهده الآن من نهضة إعلامية مشهودة تواكبت مع الثورة الإعلامية العالمية دون أن تنل هذه النهضة من رسوخ القواعد الإعلامية التى انطلقت من إذاعة القاهرة، والتى اتخذها الإعلاميون العرب على اختلاف وسائطهم من إذاعة وتليفزيون دستورا غير مكتوب يلتزم به الجميع رغم عصر السماوات المفتوحة وما استجد من أساليب إعلامية مستحدثة. ومن هنا نستطيع تقييم الدور المؤثر الذى قام به هؤلاء الرواد فى أداء رسالتهم التنويرية ومنهم طاهر أبو زيد رغم بساطة إمكانات التقنية قبل ثلاثة أرباع القرن حيث أنشئت الإذاعة المصرية فى منتصف ثلاثينيات القرن الماضى. وقد ولد طاهر أبو زيد فى الخامس عشر من أبريل سنة 1922 بمدينة طلخا بمحافظة الدقهلية وأتم تعليمه حتى الثانوية العامة فى مدينة المنصورة ولظروف خاصة اضطرته للعمل مبكرا كمحضر بمحكمة الإسكندرية وهناك التحق بكلية الحقوق منتسبا حتى لا يفقد وظيفته إلى أن حصل على الليسانس 1948، وهنا تلعب المصادفة دورا مصيريا فى حياة طاهر أبو زيد حين التقاه أحد أصدقائه وأخبره أنه سوف يسافر غدا إلى القاهرة لتقديم أوراقه لاختبار المذيعين الجدد واقترح على طاهر أبو زيد أن يرافقه كمؤنس طريق. وأمام الإذاعة القديمة بشارع علوى بوسط القاهرة أقنعه الصديق بأن يقدم أوراقه هو الآخر على سبيل التسلية بدلا من جلوسه منتظرا على أحد المقاهى المقهى وفعل طاهر أبو زيد ليدخل الامتحان وتأتى النتيجة مفاجئة لتعلن فوز أبو زيد بالمرتبة الأولى فى الوقت الذى لم ينجح فيه صديقه ويظل إلى الآن مجهولا بينما أصبح طاهر أبو زيد نجما من نجوم الإذاعة المصرية. وقد بدأ طاهر أبو زيد مشواره الإذاعى فى أوائل سنة 1950 قارئا لنشرة الأخبار مع زملائه صفية المهندس وعواطف البدرى وتماضر توفيق وعلى الراعى وحسنى الحديدى وجلال معوض، ويكتسب طاهر أبو زيد خبرة فى العمل الإذاعى ليقدم لنا أروع البرامج الإذاعية على مدى تاريخها ومنها برنامجه الأشهر «جرب حظك» وكان بمثابة البوابة التى ينطلق منها أصحاب المواهب الواعدة آنذاك ومنهم عبد الحليم حافظ فى الغناء وأحمد فؤاد نجم فى شعر العامية والمأمون أبو شوشة فى الفن الإذاعى وغيرهم ممن تضيق بهم المساحة، وقد كان هذا البرنامج يندرج تحت ما يسمى ببرامج المنوعات الذى تتخلله المعلومات الثقافية والطرائف والمقطوعات الموسيقية، وقدم برنامج «الفن الشعبى» الذى يهتم بفنانى الأقاليم الذى عاش بينهم فى الدقهلية تلك المحافظة المزدحمة بشتى المواهب فى الفنون والآداب والتى أفرزت أساطين الغناء كأم كلثوم والسنباطى وكبار الآدباء والمفكرين أمثال أحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل وأنيس منصور وغيرهم. وكان برنامج «الفن الشعبى» يقدم نماذج من مبدعى هذا الفن الذين أصبحوا بعد ذلك نجوما شعبية مثل محمد طه وأبو دراع والسيد فرج السيد أشهر شاعر للربابة فى مصر، وحين تحققت النجومية لطاهر أبو زيد وذاعت شهرته تقدم للترشيح لعضوية مجلس الأمة ليصبح أول نائب لدائرة طلخا فى برلمان الثورة 1957 ولأنه إذاعى حتى النخاع لم ينس واجبه الإعلامى تحت القبة فقدم برنامجين لبث جلسات مجلس الشعب عبر الإذاعة هما «رأى الشعب» و«مع مجلس الأمة» وكان البرنامجان باكورة هذه النوعية من البث الإذاعى قبل أكثر من نصف قرن ثم تبدأ مرحلة أخرى فى حياته الإذاعية ليصبح مديراً لإذاعة الشرق الأوسط منذ تأسيسها سنة 1967 ولمدة خمس سنوات لينتقل إلى التليفزيون مقدما لبرامج حوارية حول قضايا الشارع المصرى. ولكنه لا يلبث أن يعود إلى بيته الأول «الإذاعة» ليقدم برنامجه الأخير «حكايات طاهر أبو زيد» للبرنامج العام والذى يسرد من خلاله قصة مشواره الإذاعى الناضج عائدا بالمستمعين إلى سنوات عصر التألق الإذاعى مستعرضا معهم مسيرة نضال الشعب المصرى من أجل الحرية. وقد اختتم إنجازاته الإعلامية حين جعل من مستمعى «حكايات طاهر أبو زيد» نواة لتأسيس جمعية حماة اللغة العربية سنة 2000 بعد أن لاحظ ما اعتراها من ضعف يصل إلى درجة الوهن وذلك وفق تعبيره البليغ. وقد ظل يقدم حكاياته الشائقة عبر هذا البرنامج حتى أيام قليلة قبل رحيله.. رحم الله الرائد الإذاعى المبدع طاهر أبو زيد.