«كانت المرة الأولى التى أخرج فيها من بلادى متجهة إلى قارة آسيا فى جولة لعمل دراسة أنثروبولوجية مطلوبة لدراستي. وكانت محطتى الأولى هى بنجلاديش حيث يفترض أن أعيش مع بعض القبائل هناك لدراسة ثقافتهم وأسلوب حياتهم، وعندما وصلت إلى العاصمة دكا فوجئت بأنه موسم الأمطار الغزيرة، وأن البلاد تعانى من حالة مجاعة شديدة أدت لتفشى أمراض عديدة، وقتل الكثيرين من السكان. كانت صدمة كبيرة لى، أنا القادمة من حياة مرفهة، ولم أتصور من قبل كيف يمكن أن تكون معاناة البشر فى هذه الأمكنة من العالم». هكذا بدأت السيدة الأمريكية حكاية تجربتها التى خاضتها منذ أكثر من عشرين عاما، وكانت وقتها فتاة صغيرة فى السابعة عشرة من عمرها.. وتستكمل السيدة قصتها قائلة:«كنت فى الأتوبيس الذى يسير وسط الطمى بصعوبة بالغة، وأشاهد من النافذة أطفالا ونساء ورجالا فى ملابس رثة، وقد بلغ بهم الجوع حد أن صاروا هياكل عظمية متحركة. كان انطباعى الأول الساذج هو أن أصرف الشيكات البنكية التى معى، وقيمتها 2000 دولار - هى التكاليف المدخرة لرحلتى - وأشترى بها طعاما لهم. لكنى أدركت أنه لم يكن هناك أى وسيلة للوصول إلى بنك. قلت لنفسى: إذا أستطيع أن أشترى بال 150 دولارا الجاهزة معى الآن وجبة لكل فرد ممن أرى أمامى. فإذا بى أفاجأ بأنه لا يوجد أصلا فى المدينة طعام يُشترى». «تصورت أنه لابد أن يكون الصليب الأحمر فى طريقه لإنقاذ هؤلاء من الجوع، ولكنى أدركت مع الوقت أنهم ما جاءوا إلى هنا من قبل، ولن يأتوا، فوقعت فى نوبة من البكاء والخوف، ليس قلقا على نفسي، فأنا معى بعض من الماء والطعام والثياب التى تلزمنى لأيام قليلة، ولكن لقلة حيلتى وعجزى عن أن أفعل أى شىء لمساعدة هؤلاء البشر الذين فى هذا الحال من البؤس. وبينما أنا كذلك، رأيت رجلا نحيفا للغاية يصعد إلى الأتوبيس، ويبدو عليه منتهى الضعف والهزال. كان فى نحو الثلاثينات من العمر لكن هزاله جعله يبدو كرجل عجوز. كانت عيناه غائرتين وتشبهان عيون الشبح، أو كأنه شخص ميت، وبينما يقترب منى ليستند على ظهر الكرسى، لا حظت أن يديه تظهر عليها علامات الجذام، فأصبت بالرعب. وبينما حولت وجهى نحو النافذة لأنظر للخارج، لمحت رجلا آخر بنفس النحافة، والملابس الرثة، والأقدام العارية، يحملق فى وهو يبتسم ابتسامة عريضة. أصبت بدهشة بالغة أن يوجد شخص يمكنه أن يبتسم فى مثل هذه الظروف البائسة. ولم أستطع إلا أن اقول له والدموع تنهمر من عينى:«كيف يمكنك أن تبتسم هكذا؟» ولدهشتى وجدته يقول لى بلغة إنجليزية فصيحة:«إن الابتسامة هى كل ما لدى لأقدمه يا سيدتى». «لقد غيرت هذه الكلمات البسيطة التى قالها الرجل مفهومى عن العطاء تماما على مدى عمرى كله، وقبل أن افكر كيف أجيب عليه، وجدته يقول لى: تعالى.. تعالى معى. نزلت من الأتوبيس وسرت معه وسط الأمطار. وأخذنا نسير لأكثر من عشر ساعات وسط أكوام من البشر، يحتضرون.. نسير بينهم، ونتوقف عند أحدهم، ونركع بجانبه، فيأخذ «الرجل المبتسم» - كما صرت أسميه - يشدو له بكلمات منغمة هادئة، تلمس الروح، يبدو أنها صلوات إسلامية، بينما أفعل أنا نفس الشيء بصلواتى المسيحية. فكنا نرى على قسمات وجوههم بعد قليل تعبيرات تنم عن الإحساس بالسلام والهدوء. وكان «الرجل المبتسم» أيضا يلمس جبهة أحدهم برفق أو كتفه، ويطلب منى أن أفعل ذلك، فنرى علامات الرضا والسرور على وجهه، فنودعه لنفعل نفس الشىء مع رجل آخر أو امرأة أو طفل. وبينما نسير بين هذه الجموع لمحت بينهم جثة ذلك الرجل المجذوم الذى التقيته فى الأتوبيس، فأصابتنى نوبة بكاء، كما كان يحدث بين حين وآخر. وكان «الرجل المبتسم» يقول لى برفق وهدوء:«من الطبيعى أن نبكى أحيانا.. لا يوجد ما يجعلك تبكى الآن.. هيا استجمعى نفسك لنكمل مهمتنا». واحة السعادة/U/ «مضت الساعات وحان وقت عودتي، وسمعت صوت السائق ينادينى، فتوجهت للأتوبيس بعد أن ودعت «الرجل المبتسم». ورغم أنى كنت أعرف أنى لن أراه بعد ذلك اليوم إلا أنه صار فى عيونى يمثل معنى «البطل»، إنه لم يكن يملك قرشا واحدا، ولا رغيفا، ولا أى شىء مادى يمكن أن يعطيه، ولكنه بما لديه من حب، ومن بهجة، استطاع أن يخفف من آلام ومعاناة مئات البشر. عاهدت نفسى منذ ذلك اليوم أن أصير على درب هذا «الرجل المبتسم». ومن وقتها وأنا أضع على قمة أولوياتى أن أمتلئ بالسعادة لأهدى منها لكل من حولي، وأن أتعامل مع كل البشر على أنهم أفراد أسرتى. إنى حين أذهب للتسوق أو للبنك أو أسير فى الشارع، وأقابل أى شخص، أبتسم له وأنا أقول فى نفسى «ربما يكون هذا الشخص مكدرا لشىء ما»، سأرسل له مما لدى من بهجة تخفف عنه، وابتسم كما كان يفعل «الرجل المبتسم» وهو يعطى من روحه. لقد علمنى عمليا أن تقديم الحب ليس عملية صعبة ولا معقدة، فإذا كان كل ما لديك أن تعطيه هو الابتسامة، فإن ذلك عندها يكون كافيا جدا». الطريف أن الفتاة الأمريكية غيرت اسمها إلى اسم جديد هو (Happy Oasis) أى «واحة السعادة» لأنها اختارت أن تكون لكل من تلتقى به ولو للحظات عابرة منبعا للراحة والبهجة، تقدمها له ولو بابتسامة جميلة صافية. ما هو العطاء؟/U/ ما هو «مفهوم العطاء» الذى تغير عند «هابى» بعد أن استمعت لكلمات «الرجل المبتسم»؟ لقد عبرت هى عنه بأسلوبها حين قالت إنها تعلمت أن: «تقديم الحب ليس عملية صعبة ولا معقدة، فإذا كان كل ما لديك أن تعطيه هو الابتسامة، فإن ذلك عندها يكون كافيا جدا.» وقد عاشت «هابي» ذلك عمليا فى حياتها بطريقة ما. لكنى أعتقد أن كلمات «الرجل المبتسم» بها الكثير أيضا مما يستحق مزيدا من التأمل. تعلمت من كلماته أن «العطاء» هو حال إنسانى راق ليس له أى علاقة بما إذا كان الإنسان لديه أشياء مادية أم لا، فقد يكون الإنسان لديه أشياء كثيرة جدا، لكنه لا يتذوق «هذا الحال»، بل ويشعر أنه ليس لديه ما يعطيه. بينما حين يستشعر الإنسان «حالا» من المحبة، والرغبة الصادقة فى العطاء، فإنه يجد نفسه تلقائيا مدركا أن عنده ما يعطيه، حتى لو كانت «الابتسامة». وطبعا الابتسامة فى هذه القصة ترمز لقدر المحبة والرقة والوعى الذى جعل هذا «الرجل المبتسم» يدرك أنه إذا كان ليس بيديه أن يعطى للناس ما ينقذهم من المجاعة، فهو قادر على أن يعطيهم شيئا أكثر قيمة، وهو أن يجعل أرواحهم تهدأ وهم يودعون هذا العالم، وهذا عمل رائع تحتاجه الروح فعلا وهى تفارق الحياة. الشيء الثانى الذى عاشه «الرجل المبتسم» هو أن رقته ورقيه النفسى والروحى جعله يتعالى فوق الألم الطبيعى الذى يمكن أن يستشعره الإنسان فى مثل هذا الظرف القاسي، ويسمو بهذه المشاعر إلى الدرجة التى تجعله يمتليء هو نفسه بالسعادة حتى يستطيع أن يفيض بها على غيره. فهو لهذا يقول ل «هابى»:«لا يوجد ما يجعلك تبكى الآن.» فهو طبعا لم يكن يلومها، وإنما كأنه يوجهها إلى أن تسمو بمشاعرها إلى ما فوق «التعاطف»، وتصل بها إلى «الرحمة» التى تمكنها من «العطاء». فهذا السمو يجعل الإنسان يعى الاحتياج الحقيقى لشخص ما فى لحظة ما. أما إذا توقف إحساسنا عند مجرد «التعاطف» لحال شخص ما، فقد نتوقف عند البكاء، وهذا لن يكون مساعدا لأى أحد. الإنسان حين يتذوق حال العطاء، يُلهم بما يحتاجه من حوله. الابتسامة التى تمارسها «هابي» هى أسمى أنواع العطاء لأنها قادمة من روح المحبة لكل البشر. لكن روح المحبة هذه حين تشملنا فإنها تستطيع أن تعبر عن نفسها فى كثير من الوجوه. شعرت أنى أريد أن أقدم هذه القصة فى هذا الوقت بالذات لأن أحداثا كثيرة تدور حولنا تضيع فيها أرواح بريئة دون أدنى سبب، وكثيرون منا يشعرون بالعجز عن التصرف وكأننا مثل «هابي» وهى تبكى ولا تجد ما تفعله لمن يموتون أمامها بالعشرات. لقد أرسل لها القدر «الرجل المبتسم» وأخذ بيدها لتقوم بشيء من المساعدة التى أمكنها أن تقدمها، كما أنه علمها درسا أفادها على مدى حياتها. نريد أن نبحث عن «الرجل المبتسم» داخلنا، وحولنا، فدموعنا لن تساعد أحدا، لكن السعادة والمحبة قد تلهمنا بشىء ما نافعا.