رغم مرور 37 عاماً على انتصار حرب أكتوبر فإن أصداء هذا الانتصار التاريخى مازال يلقى بظلاله على المجتمع المصرى، ومازال هذا الانتصار فخرا لكل مصرى، وقد تكون الأجيال الجديدة لا تعرف الكثير عن الحرب وتداعياتها ولم تعش هذه اللحظات التاريخية ولكن عزاءها أنها تقرأ التاريخ وتتعرف على البطولات والعمليات الفدائية التى قام بها رجال مصريون استبسلوا واستشهدوا من أجل رفع العلم المصرى على أرض سيناء الغالية. إن بطولات أكتوبر لن تنتهى ومازلنا نتعرف على المزيد من هذه البطولات وأصحابها الذين يترفعون عن الشهرة وعن التحدث عن إنجازاتهم لأنهم يرون أنها إنجاز لجيش ولشعب كامل لديه الإرادة والتصميم والروح القتالية والاستعداد للشهادة من أجل بلده، فكان الانتصار. ومن أهم التحديات التى كانت تواجه الجيش المصرى قبل حرب أكتوبر خط بارليف وهو عبارة عن ساتر ترابى له ارتفاع كبير قدرّ بإنه من 20 إلى 22 مترا وانحدار بزاوية 45 درجة على الجانب المواجه للقناة، كما تميز بوجود 20 نقطة حصينة تسمى «دشم» على مسافات تتراوح من 10 إلى 12 كم وفى كل نقطة حوالى 15 جندياً تنحصر مسئوليتهم فى الإبلاغ عن أية محاولة لعبور القناة وتوجيه المدفعية إلى مكان القوات التى تحاول العبور، كما كانت عليه مصاطب ثابتة للدبابات، بحيث تكون لها نقاط ثابتة للقصف فى حالة استدعائها فى حالات الطوارئ، كما كان فى قاعدته أنابيب تصب فى قناة السويس لإشعال سطح القناة بالنابالم فى حالة محاولة القوات المصرية العبور، والتى قامت القوات المصرية الخاصة بسدها تمهيدا للعبور فى واحدة من أعظم العمليات. عندما قابلت اللواء باقى زكى يوسف مصادفة عرفت أنه صاحب الفكرة التى تم من خلالها هدم خط بارليف طلبت منه على الفور إجراء حوار صحفى ففوجئت به يعتذر بأدب، فسألته متعجباً عن السبب فى ذلك فقال إنه لا يحب الشهرة، وإنه يكفيه ما كرّمه به الله عندما عبر أثناء الحرب ورأى الانتصار بعينيه وأحس بنشوته، فهذا وحده يكفيه مدى الحياة، فهو لا يحتاج إلى الشهرة وأنه يفضل أن يظل بعيداً عن الأضواء، لأن ما قام به هو خدمة لله ولوطنه. احترمت وجهة نظره، وقلت له ولكن ما ذنب الأجيال الجديدة التى لا تعرف شيئاً عن حرب أكتوبر والتى تنتظر أن تقرأ عن البطولات وعن بسالة الرجال المصريين وعن عبقرياتهم التى هزمت أعتى الإمكانات والتكنولوجيا الحديثة، ما ذنبهم ألا يتعرفوا أن فى مصر رجالا تحدوا الصعاب. لماذا لا نقدم نماذج مشرفة تجعلهم يتفاءلون وأن نبث فيهم الأمل من خلال عرض إنجازات تحدث العالم عنها وأصبحت تدرس فى الجامعات الغربية؟.. أليس من حقهم أن يعملوا ويعرفوا؟. سكت اللواء باقى ودمعت عيناه، وقال لى عندك حق، أنا تحت أمرك ولتبدأ حوارك على الفور.. *قلت له احكى لى من البداية.. **قال اللواء باقى البداية كانت فى عام 1964 عندما انتدبت من الجيش للعمل بالسد العالى وحصلت هناك على خبرات جديدة ومتعددة فى مجال الحفر والهندسة رغم أنها ليست تخصصى، وانتهى انتدابى فى 5 يونية 1967 عندما انهت القوات المسلحة انتداب كل الضباط بسبب ظروف الحرب، ورجعت لموقعى لأصبح رئيس فرع مركبات بفرقة على الجبهة. وفى مايو 1969 وهو تاريخ لا يمكن أن أنساه، جمع قائد الفرقة جميع القيادات وكنت من ضمنها، من أجل مناقشة ودراسة مهمة عبور واقتحام خط بارليف، وبعد أن عرض المهمة بدأ رؤساء الاستطلاع والعمليات والمهندسون يدلون برأيهم من خلال التقارير والمعلومات المتوافرة فشرحوا طبيعة الأرض وتضاريسها، وكل شرحهم كان يركز على طبيعة الساتر الترابى وتكوينه والتجهيزات القتالية الموجودة به. وعرفت أنه عندما حفرت قناة السويس خرجت الرمال على الشاطئ الشرقى للقناة، وكان عليه كثبان رملية طبيعية، بالإضافة إلى ناتج الحفر فأخذه العدو وأوصله ببعض كحائط وقام بتعليته وقربه على القناة فأصبح على الحافة الشرقية مباشرة بميل 80 درجة بنفس درجة ميل القناة. وقام العدو بوضع نقاط قوية وتحصينات من ألغام، وألغام دبابات، وكان مخطط أن أى تقدم عسكرى سيكون بالمدرعات، وكان الساتر الترابى مجهزاً بشكل متقدم جداً لمواجهة المدرعات. ويقول اللواء باقى عندما شرح رؤساء العمليات مقومات الساتر، كنت أول مرة أتعرف على هذه التفاصيل، كما شرحوا بعض التجارب المقترحة لإزالة الساتر الترابى باستخدام الألغام والمتفجرات من خلال المدفعية، وكانت أية تجربة منها تستغرق من 12 إلى 15 ساعة وحجم الخسائر يقدر ب 20% من الموجات الأولى للعبور أى بحساب بسيط 20 ألف شهيد، فذهلت من هذه الأرقام وشعرت أن الزمن كبير والخسائر ضخمة، فطلبت الكلمة، وكنت وقتها برتبة مقدم، ورغم التعجب الذى ظهر على القائد وعلى باقى زملائى من طلبى للكلمة لأن تخصصى فى المركبات ولا علاقة لى بالهندسة، إلا أنه أعطانى الكلمة. وشرح اللواء باقى فكرته بأن فتح ثغرات لن يتأتى إلا بوضع طلمبات «ماصة كابسة» على زوارق خفيفة تسحب المياه من القناة وتضخها على الساتر الترابى، فتأخذ المياه باندفاعها الكبير الرمال وتنزل بها إلى قاع القناة، وأضفت قائلاً إن هذه التجربة تمت تجربتها فى السد ورغم اختلاف المكانين والظروف فإننا فى السد العالى نقلنا كل الرمل بالتجريف، وكانت ربع الكمية رمال، وهى نفس العنصر الذى سنتعامل معه فى الساتر الترابى، مع ملاحظة أننا فى السد العالى سحبنا المياه من النيل بطلمبات توصل إلى جبال الرمل حول السد العالى، وكانت الطلمبات تضخ المياه على هذه الجبال فتنزل المياه إلى احواض حول الجبل، وكانت المواسير قطرها 60 سم. ولكننا لن نحتاج إلى طلبمات بهذه المواصفات لأن حجم السد العالى كبير جداً، وبالتالى فسوف نقوم بتصميم طلمبات بحجم صغير ونضعها على زوارق خفيفة تسحب المياه من القناة وتضخها على الساتر، علماً بأن المياه أثناء رجوعها إلى القناة لن تؤثر على الكبارى. عندما عرضت الفكرة وجدت صمتاً كاملاً من كل الفرقة، حتى ظننت أننى قلت كلاماً خاطئاً، لكنهم اندهشوا من الفكرة واعجبوا بها، وبعد عدة مناقشات اقتنع اللواء سعد زغلول عبدالكريم والذى كان قائد الفرقة، وقام بالتحدث مع قائده اللواء طلعت حسن على، الذى استدعى بدوره اللواء ممدوح جاد التهامى وبمجرد استماعه للفكرة خبط بيده على المكتب وقال لن تأتى إلا بهذه الطريقة، فكلم الأخير اللواء نوفل رئيس العمليات وشرح له الفكرة. وبعد عدة أيام قام اللواء سعد عبدالكريم بعرض الفكرة على الرئيس جمال عبدالناصر شخصياً أثناء اجتماعه مع قادة الفرق الذى كان يعقده كل اسبوع، وبعد أسبوع تقريباً طلبنى اللواء سعد عبدالكريم وطلب منى أن أحضر المسودة التى كتبت بها تقريرى حول الفكرة، وعندما أعطيتها له قام بحرقها على الفور، حتى يضمن ألا يطلع عليها أحد نهائياً لضمان السرية، وقال لى إن الرئيس عبدالناصر اهتم بالفكرة جداً وأمر بتجربتها. وبالفعل قام سلاح المهندسين بعمل 300 تجربة تقريباً على الفكرة، أول تجربة كانت فى حلوان على طلمبة للسد العالى وكانت كبيرة، ثم بعدها عملوا تجارب بطلمبات ميكانيكية ثم طلمبات توربينية قليلة الحجم وتأثيرها واندفاعها كبير فأعطت نتيجة خلال ساعتين ونصف الساعة، ثم عملوا بيان عملى فى يناير 1972 فى جزيرة البلاح داخل القناة على ساتر ترابى طبيعى ناتج عن الحفر والتطهير، وفتحت الثغرة فى 3 ساعات إلا ربع الساعة من وقتها تقرر استخدام هذا الأسلوب رسمياً. وفى يوم 6 أكتوبر فتحت أول ثغرة فى حدود الساعة السادسة، وتم فتح ثلاثة أرباع الثغرات أى حوالى 60 ثغرة أسقطت 90 ألف متر مكعب من الساتر الترابى الذى وصل ارتفاعه إلى 20 متراً فى القناة فى الساعة العاشرة مساء، واستطاع لواء مدرع كامل أن يعبر من معبر القرش فى الإسماعيلية فى الساعة 8.30 مساء، وقدرت الخسائر ب 87 شهيداً فقط فى الموجات الأولى. وكنت مسئولاً عن تأمين جميع المعابر بالنجدة شرق وغرب القناة، وقمت بالعبور من معبر الفرقة السابعة صباح يوم 7 أكتوبر بالنجدة.